ابن الجميز

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

    يرى علماء علم المصريات، أنّ أجدادنا المصريين كانوا أول من عرفوا كتابة (السيرة الذاتية) ومن بين العديد من البرديات عثروا على قصة المواطن (سنوحى) الذى كتبها فى شكل سيرته الذاتيةٍ..ويرى بعض العلماء أنها قصة حقيقة ويراها آخرون أنها من وحى الخيال..ونظرًا لأهميتها تقرّرتدريسها فى المدارس لمدة 500 سنة على الأقل كما ذكرسليم حسن.. وكتابتها تعود إلى أوائل الأسرة12 حوالى عام 2000ق.م.. وفى العصرالحديث ترجم هذه القصة أكثرمن عالم متخصص فى علم المصريات واللغويات مثل اللغوى الكبير(جاردنر) والأثرى الكبير(ماسبيرو) كما ترجمها وكتب عنها أدولف إرمان فى كتابه (الأدب المصرى القديم) وكذلك العالم ماكس بييرفى كتابه عن (الأدب المصرى القديم) ثم نالتْ شهرة واسعة بعد أنْ تناولها الأديب الفنلندى (ميكا والتارى) فى روايته (المصرى) التى كتبها عام 1945وتمتْ ترجمتها– تقريبًا- إلى كل لغات العالم. وبعد صدورالرواية تناولتها السينما الأمريكية فى فيلم بائس لم يرق لمستوى الرواية. وكتب ماسبيروأنّ قصة سنوحى أخذها هيرودوت وكتب عنها قصة مماثلة عن (سقوط أبريس) وأنّ بردية برلين قام بدراستها وتحليلها عدد كبيرمن العلماء ذكرأسماءهم..كما توجد نسخة من البردية فى المتحف البريطانى فوق الأوستراكا رقم 5629.  

    تعرّض سنوحى لغربة اختيارية فرضها على نفسه.. وبعد أنْ عاد إلى مصركتب تجربته، فحكى أنه كان فى المعركة التى دارتْ بين الجيش المصرى واللوبيين (ليبيا الحالية) وبعد العودة إلى مصرعلم أنّ الملك أمنمحات الأول طارإلى السماء (كناية عن الموت) وبعده تولى الحكم ابنه (سنوسرت الأول) وأجمع كل من ترجموا تلك البردية أنّ سبب هروب سنوحى من مصر واختياره للغربة غامض..وكل ما ذكره سنوحى فى مذكراته أنه بعد أنْ علم بخبرموت الملك ((كان قلبى يتحرّق..وخارتْ ذراعاى..واستولتْ الرعدة على جميع أعضائى..فقفزتُ باحثــًا عن مكان أختبىء فيه)) وكتب ((كنتُ أصيح عجبًا وحزنـًا على فراق الأرض التى وُلدت فيها)) ثم بدأ يصف تنقلاته من مكان إلى مكان بأسلوب غاية فى التشويق إلى أنْ كتب ((مررتُ إلى الشرق من المحجرالذى فى إقليم (سيدة الجبل الأحمر) ثم أسلمتُ الطريق نحوالشمال ووصلتُ عند (جدارالأمير) الذى كان قد أقيم لصد الآسيويين والقضاء على سكان الصحراء.. وعند شروق الشمس شعرتُ بالظمأ الشديد..ثم سمعتُ صوت الماشية..ورأيتُ بعض البدو..وقد عرفنى شيخهم الذى عاش فترة فى مصر..وقدّم لى الماء واللبن..وأخذنى إلى قبيلته وناسها عاملونى بشفقة.

    وعن اليوم التالى كتب ((أسلمتنى أرض إلى أرض. وظللتُ أمشى حتى وصلتُ إلى رتنوالعليا (فلسطين) فقال لى ابن الأمير((إنّ حالك معى سيكون حسنـًا وأنك هنا ستسمع لغة مصر)) ثم سألنى لماذا أتيتَ إلى هنا؟ فقلتُ: إن الملك ذهب إلى الأفق. ولا أعرف لماذا أتيتُ إلى أرضكم لعلها حكمة الآلهة)) ثم بدأ سنوحى يتكلم عن ملك مصرفى عدة صفحات ووصفه بأنه ((القوى الذى يُحرزالنصر. وينقض على العدو. ويضرب البدوويُحطم سكان الرمال)) ثم قال لى الأمير (الفلسطينى): ((حقــًا إنّ مصرسعيدة لأنها تعرف أنه فالح فى حكمه)) ثم إنه جعلنى مع أولاده وزوجنى ابنته الكبرى. وقد نلتُ حب الناس. وقضيتُ عدة سنين وكبرأولادى وأصبحوا رجالا. وجعلنى أميرفلسطين رئيس جيشه. ولكن حدث أنْ طلب رجل فلسطينى مبارزتى. وكان بطلا منقطع النظير. وأخضع كل فلسطين. وأقسم أنْ يحاربنى. ودبّرسرقتى وتآمرليأخذ ماشيتى. وسألنى أميرالبلاد عن سبب عداوته لى فقلتُ أنا لا أعرفه من قبل)) ثم بدأ سنوحى فى وصف استعداده للمعركة بينه وبين هذا الرجل. وأنّ الأهالى تجمّعوا لحضورالمبارزة بينهما. وبعد المبارزة كتب أنّ خصمه ((سقط درعه وانتصرتُ عليه. وكان الأهالى فى حالة خوف وشفقة علىّ. وبعد النصرقدمتُ قربانـًا لإله الحرب (منتو) وضمنى أميرالبلاد لصدره.

    بعد ذلك يبدأ سنوحى الجزء الثانى من مذكراته. وهوأهم جزء حيث تناول فيه شعوره بالغربة وحنينه للعودة لمصر. ورغبته فى أنْ يكون موته ودفنه فى وطنه الأصلى. ويرى العلماء الذين تناولوا قصة سنوحى بالشرح والتحليل أنها أول قصة فى العالم تتناول أحاسيس الغربة والعودة للوطن. وتوقفوا أمام كلمات سنوحى الذى قال ((أنتَ يا أيها الإله- أيًا ما كنتَ- الذى أمرتَ بهروبى، كنْ رحيمًا وأعدنى ثانية إلى وطنى. وربما تسمح لى أنْ أرى المكان الذى يسكن فيه قلبى. والأمرالذى هوأهم من ذلك أنْ تـُـدفن جثتى فى الأرض التى وُلدتُ فيها. تعال لمساعدتى. ليتَ الإله يرحمنى حتى تـُحسن خاتمتى بعد أنْ تعذب قلبى. الإله قلبه رحيم يحن على من تحتــّم عليه أنْ يعيش خارج وطنه. آه يا ليتَ جسمى يعود للشباب ثانية لأنّ كبرالسن نزل بى. وقلبى مُتعب والموت يقترب منى، حينما سأحمل إلى مدن الأبدية (المقابرفى مصر)

    ثم واصل حديثه فقال ((علمتُ أنّ الملك خبر- كا– رع (اللقب الرسمى ل سنوسرت الأول) عرف بحالتى فأرسل إلىّ هدايا ثم أصدرقراره الملكى ونصه ((لقد اخترقتَ الأراضى الأجنبية. وخرجتَ من كيمى (اسم مصر) إلى فلسطين، وذلك بمشورة قلبك. فما الذى فعلته حتى يُبرم شىء ضدك؟ إنك لم تـُخطىء حتى تـُـعنــّـف على كلامك. وعزمك على خروجك من مصرقد ملك عليك قلبك أنت. ولم يكن فى قلبى (الكلام للملك) شىء ضدك. وليتك تعيش طويلا على الأشياء الطيبة التى سيعطونك إياها. وليتك تحيا على فيضهم. تعال ثانية إلى مصرلترى المقرالذى ستموت فيه. وتـُـقبـّـل الأرض، وتنال نصيبك بين رجال القصر، وذلك لأنك قد أخذتَ فعلا تتقدم فى العمر، وقد ضيّعتَ شبابك. فكرفى يوم الدفن والمرورإلى دارالنعيم (حقول اليارو: أى الجنة) وسوف يُخصّص الليل لك بالعطور. والكفن سيكون من يد (نايت) إلهة الغزل والنسيج. وسيُقام لك حفل جنازى يوم الدفن وسيكون غطاء الموميا من الذهب والرأس من اللازورد. وستوضع  زحافة وتجرك الثيران ويمشى أمامك المغنون. ويقام الرقص أمام قبرك. وعلى ذلك لن تموت فى الخارج ولن يدفنك الآسيويون ولن توضع فى جلد غنم. لذلك يجب أنْ تفكرفى العودة إلى مصر)) وبعد أنْ نقل سنوحى نص خطاب الملك كتب ((وصلنى هذا القرارالملكى فى غربتى فانبطحتُ على بطنى ولمستُ التراب ومشيتُ فى فرح))

    وفى مقطع آخرمن مذكراته كتب ((الهرب الذى فعلته لم أدبره. ولم يكن فى قلبى من قبل. ولم أفهمه. ولم أعرف الشىء الذى أقصانى عن مكانى. وقد كان ذلك كحلم، كما لوكان الرجل من الدلتا يرى نفسه على غفلة فى (الفنتين) أوفى مستنقعات النوبة. ولم يكن هناك أى شىء أخافه ولم يُطاردنى إنسان، ولم أسمع أى كلام معيب، واسمى لم يُسمع فى فم المـُـنادى. وكل ما حدث أنّ جسمى أخذته الرعدة وبدأتْ قدماى تخوران وقادنى قلبى والإله الذى أمربهذا الهروب جرّنى بعيدًا. ولم أكن دعيًا من قبل ولم أفعل أى شىء خارج القانون. ليتَ (رع) و(حور) و(حتحور) يحبون أنفك الرفيع)) ثم ذكرأنّ الملك أوفى بوعده وأرسل الهدايا والمندوبين من القصروأركبوه السفينة فى رحلة العودة إلى مصر. وأنّ الملك استقبله وقال له ((لقد عدتَ بعد أنْ اخترقت الفيافى وقطعتَ الصحارى. والكِبرقد تغلب عليك وقد بلغتَ الشيخوخة)) ثم قال له الملك ((لايجب أنْ تبقى صامتــًا هكذا عندما يُنطق اسمك)) فقلتُ ((ماذا أقول؟ ليت فى مقدورى أنْ أجيب)) فقالت الملكة ((ليت الآلهة تمنح أنفك الحياة. وليت (سيدة النجوم) تضم نفسها إليك. دع آلهة الوجه القبلى تنحدرمع النهر. وآلهة الوجه البحرى تصعد مع النهر)) ثم صافحنى أولاد الملك . ثم أخذنى الخدم فأزلوا لحيتى ونظفوا جسدى وألبسونى أحسن الكتان ودلكونى بأحسن زيت. وفى الليل نمتُ وقد تركتُ الرمال لمن فيها. فأخذتْ متاعب السنين تذهب عن جسمى وعقلى. وأقيم لى قبرمن الحجرفى وسط المقابر. وأخذ النقاشون ينقشونه ومهرة النحاتين ينحتونه. وأنشئتْ جنينة حول قبرى. ورأيتُ تمثالى الذى أمرالملك بصنعه. أنا الذى تمرد قلبه للفرارنحوالبلاد الأجنبية. والآن تحقق الخلاص الطيب. وقد تمتعتُ بكرم الملك وأنا انتظريوم صعودى إلى السماء))

    اختلفتْ د.مرفت عبد الناصرمع معظم  من كتبوا عن سنوحى. ومن رأيها أنه كتبها ((بلغة الحلم وهى خليط من بقايا أحلام وأنصاف حقائق. وأحداثها مشكوك فيها لايمكن التحقق منها وسطورها تجرفنا معها فى سيل من التساؤلات: لماذا هرب من مصر؟ وما علاقة موت الملك به؟ وإذا كان قد وجد الأمان فى مكان آخر، فلماذا يحيا بحلم العودة؟ وما تلك العلاقة بين الإنسان والمكان؟ وما الخصوصية التى تربط بين مكان الميلاد ومكان الوفاة؟ لقد أكد سنوحى أنّ خروجه  كان اختياريًا. فهل كان خوفه خوف الطفل المُتمرد على أمه، الذى يعيش صراع الرغبة فى أمان حضن الأم والرغبة فى استكشاف الغامض الذى يكمن وراء حـُـضنها؟ أى أنّ سنوحى بهروبه من وطنه قد هرب من جغرافية ذاته من أجل أنْ يكتشفها بالفعل ومن هنا تبدولنا (رحلة حياة ومشواروجود) أى أنها رحلة الذات فى بحثها الدائم عن الذات من أجل تحقيق الذات. فسنوحى يُحدثنا كما لوكانت روحه فى حالة انتظارميلاد أفضل، وكان القبرهورحم العفووالصفح، فلقد أدخل روحه– عمدًا– إلى عالم القبورمن أجل أنْ يجد المعنى الحقيقى لحياته السابقة. فالهبوط إلى القبرهوتجول فى دنيا الأخروية. وكأنّ سنوحى يأخذنا فى رحلة تشبه رحلة دانتى فى الكوميديا الإلهية. إنّ الميلاد الرمزى من خلال الموت المتخيّـل جانب أساسى فى دورة الموت والبعث فى الفلسفة المصرية حين نرى فوق الأكفان عبارات مثل (أنا وليد بيضة فى أرض لاتراها العين)) ومن هذا المنطق كتب سنوحى قصيدته بلغة تشبه لغة النعى وكأنما هى مرثية حيث تمرالقصيدة بمراحل حياته، أى من لحظة خروجه من أرض الجميز- أرض الشجرة المقدسة- الرمزالذى اتخذته كل من (نوت) و(حتحور) تلك الشجرة التى تهب الحياة المتجددة للروح..أرض الأم. كما أنّ اسم سنوحى يعنى (ابن الجميز) ومن الشعرفى مصرالقديمة قصيدة جاء بها ((يا شجرة الجميزالغالية..أناديكى..لتـُعطينى الماء والهواء..هذا الذى يسبح فى جسدك القدسى)) وتـُلاحظ د. مرفت تكراركلمة (الآسيوية) كثيرًا على لسان سنوحى فكتبتْ إنها ((كناية عن الخطروعن الغربة. وإذن فإنّ صراع سنوحى صراع هـُـوية. حاول فيه تأكيد مصريته. من خلال اعتزازه وفخره بمصر. لذلك كان يستخدم تعبير(أرض الفرح) كناية عن مصر.

    قصة سنوحى تعبيرعن الصراع بين الخضرة والصحراء، بين استيطان المدينة والقبيلة. استيطان الوطن الثابت المستقروالمُحدّد بجغرافية واضحة، والصحراء الشاسعة ذات الرمال المتحركة. لذا كتب سنوحى ((هل أنا ثورهائم/ بين قطيع خراف/ هل يمكن أنْ يحبونى/ وأنا رجل من الدلتا / هل سيسمحون لى أنْ أكبر..أنْ أسمو؟ وأنا الغريب المحكوم عليه أنْ يكون دائمًا الأقل شأنـًا؟ طريد أنا/ هارب من الألفة/ يعطى الخبزلجيرانه/ وهوالجوعان/ عاريًا بعد أنْ/ ترك أرض الكتان الأبيض/ يسكن قصرًا عظيمًا/ تسكنه أيضًا ذكريات أعظم/ يزداد حنينه إلى تلك السيدة النبيلة/ يريد أنْ يعرف حال أطفالها/ ويسمع صيحاتهم من جديد/ لتعود– مرة أخرى- إليه الحياة/ إلى عوالم أخروية/ هوذاهب/ خطواته تتبع سيدة العالم/ علــّها ترضى يومًا عنه/ وتخلع عليه قليلا من أبديتها)) ولكى تؤكد د.مرفت على وجهة نظرها كتبتْ أنّ سنوحى أنهى قصيدته قائلا ((أنا آتوم/من كان وحده/ أنا رع/ عند ظهوره وإشراقه/ أنا من يولد مرات ومرات/ أنا صاحب الأسماء/ الفينيقس العظيم/ من يسكن هليوبوليس)) (لماذا فقد حورس عينه؟ قراءة جديدة فى الفكرالمصرى- دارشرقيات- عام 2005 من ص47- 56) وهكذا كما ترى د.مرفت عبد الناصرأنّ قصة سنوحى عبارة عن قصيدة طويلة فيها انعكاس لفلسفة الموت والبعث من جديد، من خلال الهجرة فى الصحراء وحياة الرمال ثم العودة للوطن حيث النهروالزرع، وهى صورة مثيلة لصورة حقول اليارو(الجنة) بعد الموت حيث تخيّـلها المصرى القديم قى بردية (الخروج إلى النهار) شبيهة تمامًا بحياته على الأرض، فصوّره كاتب البردية وهويزرع ويحصد كما كان يفعل قبل وفاته.

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك