الدين الجديد ــ مصير الوحدة بين الكنائس فى مصر 7ـ7

90

د.مرفت النمر تكتب:

أنهى بهذا المقال سلسلة مقالاتى عن الوحدة بين الكنائس فى مصر و قد حاولت من خلال تلك السلسة من المقالات أن استشرف مصير تلك الوحدة و قراءة مساراتها المختلفة خاصة أن تلك الوحدة قد باتت أمراً حتمياً  يدفع من وراءه العديد من كبريات الكنائس فى العالم و مؤسسات دولية كبرى تهتم ببلورة تلك الفكرة و تسريع تواجدها على أرض الواقع و ما يهم هنا فى هذا المقال هو محاولة التماس تصور لشكل تلك الوحدة و هو الأمر الذى أجلت مناقشته لحين الانتهاء من عرض الموضوع بشكل مفصل حتى يكون لدى القارئ كل المقومات التى تعينه على تفهم طرحنا، و الجدير بالذكر هنا أن هناك مقالاً كتبه قداسة البابا تواضرس الثانى بمجلة الكرازة لسان حال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى 22 فبراير 2023 قبل زيارته إلى الفاتيكان يمهد فيها الرأي العام الجمعى القبطى لتقبل فكرة الوحدة بين الكنائس دينياً و هو ما يتضح فى عنوان المقال “المحبة الأخوية” و على الرغم من أن البابا لم يتعرض صراحة إلى موضوع إلا أن العين الخبيرة فى الشأن الكنسى لا تخطئ أبداً مأرب البابا و على الرغم من أن “المحبة” من المفردات و التعريفات التى قيل الكثير فيها إلا أن التوفيق خان البابا فى اختيار عنوان المقال بداية

المسيحية لا تعرف”المحبة الأخوية”

إن تخصيص المحبة و حصرها فى “الأخوية” هو أمر مستغرب جدا من قداسة البابا لأن السيد المسيح رب المسيحية قد نهى عن تلك تقزيم المحبة أخوياً فهو القائل”سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ.44 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْأَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،45 لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ”مت5. فالمحبة أطلقها السيد المسيح على عواهنها و لم يقصر توجيه تلك المحبة على القريب دون العدو و لكن هنا يتضح مبكرا قصد البابا فى تقديم ذبائح المحبة كقرابين على مذبح الوحدة الكنيسة و قد يكون هذا أمراً محموداً لكنه يفتح الباب على مصراعيه للي ذراع النص الإنجيلي و استخدامه فى مأرب سياسية و بالطبع هو أمر غير مقبول

مغالطة تفضيل المحبة عن الصلاة

يتساءل البابا تواضروس فى مقاله المشار إليه أنفا “أيهما أهم: محبة القريب أم محبة الصلاة؟” و قد يبدو هذا السؤال من قبل السجال اللاهوتي لرجل فى قامة و قيمة البابا و لكن السؤال فى مضمونه ملغم و تقفز منه العديد من التساؤلات التى لا نستطيع أن نمنع أنفسنا التقاطها و محاولة إيجاد إجابات منطقية لها و خاصة أن السؤال يتعرض لاثنتين من كبريات التعريفات  المسيحية التى تناولها العديد من الآباء الأولين و المحدثين  فى كتباتهم و على الرغم من الزخم فى تلك الكتابات إلا أنه لم يخرج علينا أحد الآباء ليخبرنا أن هناك تعارض بين محبة القريب و محبة الصلاة بل أن الشيء المثير للدهشة هو أن يضعنا السؤال بين خيارين كلاهما مغبوط ألا و هما محبة الآخر و محبة الصلاة و أى منهم مقدم على الأخر فماذا لو اختارنا محبة القريب؟ فهل نترك الصلاة و التقرب من خلالها لله ؟ وماذا لو إخطارنا محبة الصلاة و تركنا محبة القريب فهل يا ترى يكتب لنا بر دون محبة الآخر؟. هنا نجد العديد من علامات الاستفهام يخرج من مقال البابا و نشير أهم تلك العلامات هى:

مغالطة المأزق المفتعل

كمن يسألك ” القطار أسرع أم التفاحة ألذ” جاء سؤال البابا “أيهما أهم: محبة القريب أم محبة الصلاة؟” و البابا يستخدم هنا نوع من المغالطات الفلسفية و يتم ارتكابها بإيهامنا  بأنه لا يمكن بناء الحجة إلا على افتراض خيارين لا أكثر، أحدهما واضح البطلان لدفعنا إلى تبني الخيار الآخر فنحن هنا مجبرون على الاختيار بين محبة الآخر و محبة الصلاة ولا يوجد اختيار ثالث و يقدم لنا البابا فى مقاله العديد من البراهين التى تبطل محبة الصلاة فلا يكون أمامنا إلا اختيار محبة القريب متعمدا الإهمال العرضي للاحتمالات الأخرى للمحبة و التى وردت فى”1كو13″ بقصد التضليل المُتَعمَّد فلا يعقل أن يكون البابا غير ملم بكل الاحتمالات الأخرى للمحبة، و هنا يلمح البابا دون ذكر للكنيسة الكاثوليكية على الرغم من فساد الاستدلال بالنص الكتابي

البابا يتجاهل الإجابة عن السؤال

على الرغم من غرابة سؤال البابا و الذى توقعنا معه أن يعقد قداسته المقارنات بين محبة الآخر و محبة الصلاة إلا أن البابا لم يفعل ذلك بل أسهب فى توضيح فضل محبة الآخر بأمثلة و أقوال كثيرة من الكتاب المقدس و تجاهل تماما التعرض لمحبة الصلاة و لم نجد فى مقاله أى استدلال منطقي أو برهاني يصل بنا إلى أى نتائج فالمقدمات التى أتى بها البابا لا تعدو سوى طرحه للتساؤل دون وضع أى محددات أو محاور ينطلق منها للمقارنة و لجأ إلى التوفيق و التلفيق لبعض آيات الكتاب المقدس ليقفز فجأة على كل ما آتاه فى المقال و ينهى المقال بآية من الكتاب المقدس لا علاقة لها من قريب و لا من بعيد و هى “لأَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ” (بطرس الثانية1: 11 )

متى 6

يستشهد البابا فى مقاله بالإصحاح السادس من إنجيل متى ليثبت فيه أن محبة القريب قدمها السيد المسيح عن كل الفضائل و بقراءة متأنية لهذا الإصحاح نجد أن السيد المسيح أورد مجموعة من الفضائل جميعها متساوية الأهمية و لم يعلى قيمة فضيلة عن أخرى و كون أن المسيح قد أورد بعض الفضائل قبل الأخرى فإن هذا لا يعنى أن ذكر تلك الفضائل جاء حسب ترتيب أهميتها كما أن المقصود فى هذا الإصحاح هو إعادة صياغة التدبير الملوكي royal order على الجوانب الثلاثة التي عرفها الناموس الموسوي من صدقة وصلاة وصوم. الصدقة بما تحمله من معنى عام ومتسع، كعطاء للآخرين مادي ونفسي وروحي، والصلاة بكل ما فيها من عبادة جماعيّة وعائليّة وشخصيّة، وصوم بما يعنيه من كل أنواع البذل والنسك، و ما هو جديد هنا هو أن يدخل بنا السيّد إلى أعماق النظام لنمارسه لا كفريضة خارجيّة، وإنما بالأكثر كحياة حب عميق يربطنا بالله أبينا. في كل تصرف يقول السيّد المسيح “أبوك الذي في الخفاء هو يجازيك علانيّة” وكأن غاية الحياة المسيحيّة من سلوك وعبادة و نسكيّات هو الدخول إلى حضن الأب السماوي في المسيح يسوع ربنا. لقد ركّز السيّد في حديثه هنا على “نقاوة القلب” حتى يقدر المؤمن في حياته وسلوكه وعبادته أن يلتقي بالله ويعاينه! إنه لم يقدّم للكنيسة كمًّا للعبادة، إنّما قدّم نوعيّة العبادة، فإنه يريد قلبها لا مظاهر العمل الخارجي. لم يفرق هنا السيد المسيح بين عناصر التدبير الملوكى اليهودي و لكنه أعاد صياغتها دون أى امتياز لبعضها عن البعض الأخر.إلا أنا البابا تواضروس كان له رأى أخر و لا نعرف من أين استقى هذا الرأي حيث رأى أن ذكر السيد المسيح للصدقة فى بداية الإصحاح هو أهم الفضائل المسيحية حيث أن الصدقة هى محبة الغريب و التى جاء ذكرها قبل ذكر الصلاة ومن ثم تكون محبة القريب مقدمة على كل الفضائل المسيحية حتى الصلاة !!!!!

الدين الجديد

يدخل بنا قداسة البابا هنا الى مأزق لا يمكن الفكاك منه ألا و هو تفريغ الصلاة من محتواها الروحي و اللتورجى و تقزيمها أما محبة الآخر و الحقيقة فإن محبة الآخر و محبة الصلاة هى تجليات لمعنى المحبة الواسع فى المسيحية و هما ليس ضدان يتوجب علينا الاختيار بينهما أو حتى تقديم إحداهما عن الأخرى و لكن البابا أراد أن يخلخل الليتورجيات القبطية و التى تأتى فى القلب منها الصلاة و الاستعاضة عنها بمحبة الأخر و هو ما يقلص الفجوة فى العبادات و الممارسات الطقسية بين الكنيستين القبطية و الكاثوليكية و بالتأكيد فنحن لسنا ضد تقليص تلك الفجوة و التقارب بين الكنيستين و لكن لا يكون هذا على جثة الثوابت القبطية المتوارثة و المستقرة داخل الكنيسة .. لقد جانب الصواب البابا فى طرحة و هو الطرح الغير مقبول على مستوى الرؤيا و التفسير للنص الإنجيلي و هو ما يستلزم من قداسة البابا مراجعة الطرح الذى قدمه للوحدة بين الكنيستين

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك