إسماعيل مظهر وطريق التحضر

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

     يُعتبرإسماعيل مظهرأحد المفكرين المصريين الذين أثروا الحياة الثقافية المصرية، سواء فى مؤلفاته أوفى ترجماته، وكان ينطلق فى كل كتاباته من مبادىء العلمانية وعلى رأسها (علمنة مؤسسات الدولة) وضروة إعمال العقل للتمييزبين الخيروالشر، وأنّ هذا لن يتحقق إلاّبعد أنْ تتخلص البشرية من آفة (الثوابت) وأنّ السبيل إلى ذلك هوالإيمان بالتعددية ونبذ الأحادية.

            وأصدرمجلة العصورسنة1927وفى كل عدد تتصدّره جملة  ((حرّرفكرك من كل التقاليد والأساطيرالموروثة، حتى لاتجد صعوبة ما فى رفض رأى من الآراء أومذهب من المذاهب، اطمأنتْ إليه نفسك وسكن إليه عقلك، إذا انكشف لك من الحقائق ما يُناقضه)) وإتساقــًا مع هدف المجلة كتب مظهرمقالافى عدد مايو29بعنوان (المذهبية والارتقاء) والمُكوّن من 16صفحة من القطع الكبير.

    صنـّـف مظهرالمذهبية إلى: 1- مذهبية اعتقادية تؤدى إلى التعصب لفكرة أومبدأ أوأسطورة وتنتقل بالوراثة عبرالأجيال 2- مذهبية التعصب للعرق الذى يؤدى إلى النفورمن بقية سلالات النوع البشرى وتدفع إلى الحروب 3- المذهبية الطائفية. وكانت سببًا لسقوط الامبراطوريات الكبيرة 4- المذهبية الفردية أى التعصب للذات الذى يؤدى إلى التحجر.

    وعن المذهبية الاعتقادية يدخل الدين كطرف أساسى للتعصب. فيعتقد البعض بأنّ الصراع بين العلم والدين انتهى. وأنهما تصالحا على أنْ يكون لكل منهما مجاله: الدين عالمه (الذات) والعلم عالمه (الموضوع) بينما نفى فريق آخر وقوع الصراع بينهما. فنــّـد مظهرهذا الرأى الأخيروضرب أمثلة دلــّـل بها على رأيه. وأنّ المُدافعين عن الدين إزاء الحقائق التى توصل إليها العلم، وقفوا ضد العقل الإنسانى حتى لايُسايرالتطور. ولكن بعد أنّ أفلت العقل من يد الاعتقاد رمى أصحاب هذا الرأى ((بقذيفة مازال صداها يتردّد إلى اليوم فى جنبات الفكرالإنسانى)) وأضاف أنّ الإنسان ثارعلى المعتقد للدفاع عن الارتقاء. وأنّ من يفعل ذلك استطاع أنْ يُصارع التقاليد الموروثة والأساطير، ليصل لدرجة من الرقى فتكون إنسانيته (إذا بلغها) قد تحققتْ. وأنّ خطورة المعتقد فى توغله فى أغوارالنفس، فيرى المعتقدات أوالأساطيروقد تحوّلتْ إلى (القداسة) فى تلك الحالة فإنّ العقل المتعصب للمذهبية (الدينية) يقع فريسة للغيبيات على أجنحة ملائكة لاتراه ولايراها. ورغم ذلك يتخيّل أنه أحد أصفياء الله. وبالتالى فهويرى أنه قد امتلك الصواب المطلق ((ومن أجل أنْ تكون أحكام المذهبية الاعتقادية بالغة منتهى القسوة (فهى) محاطة من العقل باسم الله، واستمدّتْ كافة أحكامها وأوهامها من عالم لايراه الإنسان، فكأنها أشياء هبطتْ علينا من عالم اللانهاية. فمن تاب وأناب فالجنة موئله ومن عصى فالنارمثواه))  

    إنّ هذه الشبكة المحبوكة والمنسوجة خيوطها من عالم الغيب وتبطنتْ بسياج القداسة ليدخل العقل فى حظيرتها، هى شبكة ضعيفة أمام العقل (الناقد) الرافض للغيبيات. ومع إنّ المذاهب الفلسفية قد تبلغ فى بعض الأحيان (لدى البعض) درجة من الثبات فى النفس مثلها مثل الدين، فإنّ تطورها أضعف التعصب باستمرار، فتفقد (القداسة) وكذلك المذهبية العلمية قد تــُـصبح لدى البعض أشبه بالدين (ولكنها مع التقدم العلمى تفقد قداستها) والمذهبية الدينية عكس الفلسفة والعلم وعكس العلوم الاجتماعية التى يجتهد أصحابها لبحث حل من مشاكل الحضارة. الارتقاء الفلسفى والعلمى حركة إلى الأمام (بما يعنى صيرورة التقدم) فى حركتها الديناميكية، بينما المذهبية (الدينية) فى كل صورها نذيرالهمود والسكون الدائم، لأنّ المذهب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانى الثبات، لايحتمل مطلقــًا أنْ تتبدل بعض أطرافه أوتتغيربعض أحكامه. وخطورة أى مذهب أنه عبارة عن كل مترابط الأجزاء، فيكون مثل هرم قائم على الأرض يرتكزعلى قاعدته، فإذا تخلخلتْ القمة أوانحرفتْ، انهارالهرم . لهذا فإنّ كل فكرة مهما كانت صيغتها إذا ما لبستْ الثوب المذهبى، فذلك دليل على قرب انهيارها.  وإذا كانت هناك مذاهب فى الفلسفة، فإنّ الدين هوأقسى ضروب المذهبية أثرًا فى النفس وأقواها ولكنه يضعف أمام العقل الناقد.

    إنّ المذهبية الاعتقادية كانت من أقوى الموانع دون الارتقاء. وأكبردليل على هذا أنّ الصيحة التى صاحها الغرب فى وجه الكنيسة وانتهتْ بفصل الدين عن الحكومة. والصرخة المدوية التى يرن فى أذننا صداها اليوم ضد مذهبية الفلسفة ومذهبية العلم بل ومذهبية الاصلاح الاجتماعى نفسه، ظهرتْ جلية فى مذهبية الشيوعيين والاشتراكيين وانتهت بتقريرمبدأ حرية الفكر. ولم يكن لهما من سبب إلاّوقوف المذهبيات فى وجه الارتقاء. بل إنّ هاتيْن الصيحتيْن ليستا إلاتعبيرًا عن شعورعميق خارج أعماق النفس لوتاقتْ إلى الارتقاء والتقدم، فيحول دونها حائل المذهبية. وأننا لن نكون يومًا ما أقرب إلى انتهاج سبل الارتقاء الحقيقى، إذا لم نحطم المذهبيات بأنواعها وتركنا الفكرحرًا ليسلك بنا السبل التى مهّدها من قبلنا أصحاب الارتقاء من أهل الحضارة الحديثة.

    أما المذهبية المتعصبة للعرق فهى تؤدى إلى النفورمن بقية سلالات النوع البشرى. وأنّ ما يُسمى الفتح أوالغزو، فقد تسبّب فى التدميروقلب الأنظمة الاجتماعية المستقرة. وبسبب ترسيخ منظومة (الملكية الفردية) من ناحية والغزومن ناحية أخرى، حدثتْ الكوارث. فبعد أنْ كانت ملكية الفرد لاتتعدى ملكية بهيمة أوشجرة أوقطعة أرض، امتدتْ الملكية لتكون حيازة مدينة أواحتلال وطن بأكمله. ومن ثم أصبحتْ ملكية لرقاب شعوب بأكمها.

    وعن المذهبية الطائفية فإنّ مجرد وجود أقلية مندمجة فى أكثرية، تسبّبتْ فى ظهورالتعصب الطائفى، لأنّ طبيعة الأكثرية الميل إلى الاستبداد والاستئثاربالمصالح الكبرى فى دولة ما من الدول. ومن صفاتها احتقارالأقليات، وهوما يؤدى إلى إذلال الأكثرية للأقلية، فيبقى جسم الأمة مسمومًا بسم الطائفية. ولاجـُـرم أنّ هذا من أكبرعوائق الارتقاء. إنّ تاريخ الكنائس على مرالعصوربلغ أقصى الضرربترقى الإنسانية. والحائل الأكبردون الإخاء الإنسانى. وموئل الخلافات ومبعث الشرورالاجتماعية. وعلينا أنْ نتذكرأنّ الإنسان ليس له أى اختيارفى دينه. وأنه يولد محفوفــًا بثلاث ضرورات أولية: الأولى أنه يوجد والثانية أنه يموت والثالثة أنْ يكون له دين. أما الضرورتان الأولى والثانية فطبيعيتان. أما الثالثة فهى صناعية فيها من أثرالعادة أكثرمما فيها من الطبيعة. ولن يكون نظام هذا شأنه مفيدًا للإنسانية أومسايرًا للارتقاء. بل هونظام موروث يُحدث اتجاهـًا فكريًا من شأنه أنْ يزيد من فجوات النظام الاجتماعى ويُكثرمن تصدع الاتحاد الإخائى. بينما حاول الفلاسفة سد هذا التصدع الإنسانى. لهذا فإنّ إلغاء نظام الكنائس نعمة كبرى. وفى إلغائه أكبرخدمة للإنسانية.

    فى ختام هذه الدراسة كتب مظهر((إنّ الثوب المذهبى إذا لابس أية صورة من صورالفكرأوالمعتقد أوالميول أوالنزعات، كان أكبردليل على بدء طورمن الانحلال تظهرنتائجه تدريجيًا على مرالزمان. إنّ الارتقاء والمذهبية عدوان لدودان. ولن يكون ارتقاء مع مذهبية. ولن تكون مذهبية مع ارتقاء. إذن وجب علينا أنْ نـُـضحى بأحدهما ليخلص لنا الآخر. ولاجُرم أننا نـُـضحى بالمذهبية لنخلص بالارتقاء ونتجه إليه فى خطانا نحوالحضارة الصحيحة))

***

    هذا ما كتبه إسماعيل مظهرعام 29ولم يكن وحده إنما كان ضمن تياركبيرمن المفكرين الليبراليين الذين عاشوا الفترة السابقة على أبيب/ يوليو52. ولم تكن د. لطيفة الزيات مغالية فى رأيها وهى تصف مشهد وداع عميد الثقافة المصرية (طه حسين)  فكتبتْ ((وأنا أشيع جنازة طه حسين شعرتُ أننى أشيّع عصرًا لارجلا. عصرالعلمانيين الذين جرءوا على مساءلة كل شىء. عصرالمفكرين الذين عاشوا مايقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة على إرادة كل ألوان القهر)) 

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك