إلغاء الخلافة وتحريرالشعوب من قبضتها

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

    ترتب على قراركمال أتاتورك الخاص بإلغاء الخلافة العثمانية، الكثيرمن ردود الفعل فى معظم الدول العربية والإسلامية، وبصفة خاصة بين شرائح الأصوليين فى هذه الدول. ولكن كانت أهم وأخطرظاهرة هى التنافس بين أكثرمن دولة، على ترشيح (خليفة جديد) للمسلمين.

    ومن أمثلة تلك المنافسة ماحدث من ملك الحجازالهاشمى (حسين بن على) الذى طلب الخلافة لنفسه، وأنْ يكون ((خليفة على فلسطين وشرق الأردن)) ثم توالتْ المنافسة حيث رشح الأصوليون سلطان مراكش ليكون هو(خليفة المسلمين) ودخلتْ المنافسة فى تطورجديد عندما رشح الأصوليون فى أفغانستان ملكهم ليكون هو(خليفة المسلمين) أما الأصوليون فى مصرفقد رشحوا الملك فؤاد ليكون هو(خليفة المسلمين)

    كان ترشيح الملك فؤاد ليكون هوالخليفة، أكثرالترشيحات جدية حيث طالب الأصوليون الإسلاميون (المصريون) والأجانب الذين يعيشون فى مصر(أمثال عبدالعزيزجاويش ومحمد رشيد رضا) بعقد مؤتمرإسلامى لبحث ترشيح خليفة للمسلمين، على أنْ يكون الملك فؤاد ملك مصر، الذى فرح- كما يفرح الأطفال بلعبة جديدة- بهذه الخطوة المباركة من الأصوليين، ووجد فى هذا الترشيخ للخلافة الإسلامية فرصة للتخلص من بعض القيود التى فرضها عليه دستورسنة1923. ولذلك طلب مقابلة كبارشيوخ الأزهر، فاستجابوا على الفور، وأبلغوه بأنهم ((بالفعل ألفوا لجنة لذلك)) وبعدها بأيام أبلغوه بأنهم شكلوا شيئــًـا جديدًا أطلقوا عليه (الهيئة العلمية الدينية الإسلامية الكبرى) برئاسة شيخ الأزهرأبوالفضل الجيزاوى، وعضوية محمد مصطفى المراغى وآخرين. وأنّ أعضاء تلك الهيئة (العلمية) قرّروا أنّ الإمام ((يصيربالبيعة من أهل العقد والحل واستخلاف إمام قبله لابد من نفاذ حكمه فى رعيته خوفــًـا من قهره وسلطانه، فإنْ بايع الناس الإمام ولم ينفذ حكمه بعجزه لايصيرإمامًـا. وإذا تغلب شخص على الخليفة واغتصب مكانه انعزل الأول، وعلى هذا الأساس حـدّدتْ الهيئة أنّ خلافة الأميرعبدالمجيد خلافة غيرشرعية)) (المؤتمرالإسلامى للخلافة فى مصر- أكتوبر1924)   

    وهكذا أفصح الأصوليون عن وجههم الديماجوجى الفج بكل صراحة ووضوح، فبعد أنْ كانوا يـُـمجدون شخص الخليفة التركى/ العثمانى (عبدالمجيد) إذا بهم يعلنون أنّ ((خلافته كانت غيرشرعية)) بهدف انتهازى وهوتمهيد الطريق للخليفة الجديد (الملك فؤاد أوأى ملك غيرمهم)

    وكان لأحد الشيوخ (من نفس الفصيل الأصولى) رأى مختلف هوالشيخ (محمد قنديل الرحمانى) الذى هاجم شيوخ الأزهرلأنّ بيانهم ابتعد عن (حكم الله)  فى الخلافة ومنصب الخليفة. وأنّ عمل الكماليين (نسبة إلى كمال أتاتورك) مع الخليفتيْن السابقين (وحيد الدين وعبدالحميد) ليس من باب تغلب سلطان قاهر(إشارة لما فعله أتاتورك) على خليفة إسلامى، وأنّ هذا السلطان القاهرانتزع سلطان الخليفة الشرعى، وإنما ماحدث هو((مروق)) والحكم الشرعى فى ذلك هومحاربة الخوارج المعتدين على الخلافة، ومقاتلة الفئة الباغية. وأضاف ((اللهم لاحول للإسلام والمسلمين. ولاقوة للخلافة الإسلامية وأميرالمؤمنين، إلاّبك وحدك (يا الله) فهيىء للإسلام من أمره رشدًا، وامنحه مرشدًا، وأبعد الأيدى السياسية من التدخل فى شئون دينك، الذى أصبح سلعة يبيعها (زيد) ويشتريها (شهاب الدين) كما فعل شيوخ الأزهر(صحيفة الأهرام- 2إبريل1926)  

    أما الشيخ على عبدالرازق، الذى وجـّـه مدفعيته الثقيلة ضد (منظومة الخلافة الإسلامية) فأغضب كلامه خفافيش الظلام من الأصوليين من شتى التيارات، ولم يهدأ لهم بال ولاترتاح نفوسهم إلاّبعد أنْ طردوه من عمله (وكأنهم يطردونه من جنتهم) رغم أنّ الرجل كانت مرجعيته (دينية) بنسبة100% لأنه كان يستشهد بالقرآن وبالتاريخ الإسلامى، وذلك فى كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم) ومن بين ما قاله وأهاج الأصوليين ضده، أنه رجع إلى جذور(فكرة الخلافة) عقب وفاة نبى الإسلام، حيث أنّ خلافة الرسول على قومه كانت خلافة روحية، وهداية من الله..وولاية تدبيرمصالح الحياة، وعمارة الأرض..وتلك زعامة دينية وليست سياسية)) وبغض النظرعن هذا الكلام، الذى يخالف ماحدث، فقد كان محمد يؤسس لدولة بل يسعى لتكوين امبراطورية إسلامية بقوة السلاح (وهوما اعترف به عبدالرازق فى كتابه) أقول بغض النظرعن هذا، فإنّ عبدالرازق كان شجاعـًـا عندما كتب أنّ العرب الذين دخلوا الإسلام ((تآمروا فى اجتماع السقيفة لبحث من يولونه أمرهم، وحين قال الأنصارللمهاجرين ((منا أمير ومنكم أمير)) فردّ عليهم أبوبكروقال ((منا الأمراء ومنكم الوزراء)) أى أنه يريد أنْ يـُـثبـّـتْ (الإمارة التى تساوى القيادة بلغة العصرالحيث) فإنّ أبا سفيان انزعج وقال ((والله إنى لا أرى لحاجة لايطفئها إلاّ الدم يا آل عبد مناف)) وانتهى الاجتماع بأنْ يكون أبوبكرهو(خليفة الرسول) فكان تعليق عبدالرازق ((وهكذا يتبين أنّ البيعة لأبى بكركانت سياسية ملكية، عليها كل طوابع البيعة، وأنها قامت كما تقوم الحكومات على أساس الثورة والسيف)) (الإسلام وأصول الحكم- أكثرمن طبعة) كما دافع عن وجهة نظره فى الصحف، فكتب أنّ ((الإسلام لم يـُـقيـّـد المسلمين بنوع معين من الحكم)) (جريدة السياسة- 2سبتمبر1925)  

    وبعد أنْ سكنتْ العاصفة (نسبيـًـا) فى عهد الملك فؤاد، هبـّـتْ من جديد فى عهد ابنه فاروق، مُـحمّــلة بكل أدران وأمراض وغبارالعواصف، حيث تسارع التيارالأصولى إلى تملق الشاب حديث السن فاروق (مواليد1920، وتولى الحكم عام1936بعد وفاة والده، أى كان عمره 16   سنة) وأخذ هذا التملق شكل تجديد الدعوة إلى (الخلافة الإسلامية) وأنْ يكون فاروق (هذا الشاب حديث السن الغر) هوالخليفة. وكما تصدى على عبدالرزق للأصوليين عام1925بعد قرارأتاتورك بإلغاء الخلافة، تصدى محمد سيد الكيلانى للأصوليين الذين تملقوا الملك الشاب (فاروق) فأصدركتابه المهم (الشريف الرضى) الذى انتقد فيه فكرة الخلافة الإسلامية ونشأتها، بأسلوب أكثرجدية وعمقــًـا وأكثرجذرية عن أسلوب عبدالرازق، حيث أنّ كيلانى امتلك شجاعة الكتابة عن أفعال الخلفاء المسلمين الأوائل، وهل كانت أفعالهم من أجل الإسلام؟ أم لأغراض أخرى؟ ووفق نص كلامه قال ((ماجاهد أبوبكرحبـًـا فى الإسلام وحده، وما ضحى عمرفى الذود عن الإسلام وحده، وماكافح عثمان هيامًـا بالإسلام وحده، وماحارب على بن أبى طالب فى سبيل الإسلام وحده، وإنما كان لكل واحد منهم مطامع شخصية تتسترخلف هذا (الجهاد المصطنع) و(الكفاح المتكلف) و(هذا الانتصارالزائف) وهذا الاخلاص المبنى على غيرأساس)) ثم أضاف ((نعم كانت تتسترخلف (هذا الجهاد) و(هذا الكفاح) الأنانية والإثرة وحب الذات والرغبة فى السلطان)) (الشريف الرضى– ص87)

    لم يكتف الكيلانى بما سبق وإنما لخص تاريخ الخلافة الإسلامية فى جملة (شاملة جامعة) حيث قال إنّ الخلافة الإسلامية ((كانت شؤمًـا على الشرق والشرقيين، لأنّ الخلفاء استغلوا الدين فى كل شىء يعود عليهم بالخير(أى بالمنفعة الشخصية) فباسم الدين استعبدوا الشعوب، وباسم الدين أذلوا الشعوب، وحرموها كل حرية واستقلال)) ولم ينس- وهويكتب هذا الفصل- أنْ يـُـشيرإلى كمال أتاتورك الذى ألغى الخلافة العثمانية، وقضى إلى الأبد على منظومة الخلافة الإسلامية، فكتب ((وقد أحسن مصطفى كمال (رب تركيا الحديثة) بقضائه على هذا الأثرالبالى الذى لايصلح لعصرالنور)) (المصدرالسابق- نفس الصفحة)  

    معروف أنّ عبدالرزاق السنهورى (1895- 71) أخذ شهرته الواسعة على أنه (أشهروأهم فقيه دستورى) فى مصرالقرن العشرين، وساهم فى صياغة كتابة العديد من دساتيربعض الدول العربية، ورغم ذلك دخل حلبة الإسلاميين ودافع عن (منظومة الخلافة الإسلامية) وذلك فى رسالته للدكتوراه من جامعة (ليون الفرنسية) عام1926. كما أنّ الشىء المثيرللتساؤل هوأنه عندما حصل على الدكتوراه عام1925من الجامعة المذكورة (عن القيود التعاقدية فى القضاء الإنجليزى) فإنّ جامعة ليون الفرنسية هى التى شجعته على البقاء فى فرنسا، ومنحته (مد فترة البحث والإقامة) فكتب رسالته عن الخلافة الإسلامية ومنحته الجامعة الفرنسية درجة الدكتوراه الثانية عام1926عن الرسالة التى كتبها فى عام واحد.

    السؤال الثانى المثيرللدهشة هو: لماذا رفض د.السنهورى ترجمة رسالته عن الخلافة الإسلامية إلى اللغة العربية. لاهوقام بذلك ولاكلف أحدًا غيره بترجمتها، بل إنه كان يرفض طلبات الباحثين بنقل بعض الفقرات من تلك الرسالة عن الخلافة الإسلامية. وبعد وفاته ظهرتْ ترجمة للرسالة عام1988.

    يقول المستشارمحمد سعيد العشماوى الذى قرأ ترجمة الرسالة وعرض تفاصيلها أنّ ((الترجمة والمقدمات والهوامش والتعليقات، تجنح إلى ربط الكتاب بشعارات الإسلام السياسى، وتصبه فى قوالبه، حتى يكتسب هذا التيارمن اسم السنهورى سندًا..ومن ذلك المعنى فإنّ الكتاب (الذى حوى ترجمة رسالة السنهورى عن الخلافة الإسلامية) يـُـمثل عقيدة أيديولوجية، وفقه الإسلام السياسى..ونظرًا لخطورة العمل على ربط فقه السنهورى بفكرالإسلام السياسى، وإحياء رسالة هدفها الرد على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من خلال جامعات أجنبية، وعن طريق (رسالة علمية) ولأنّ الترجمة أفصحتْ عن الآراء والمعتقدات التى يعتزم الإسلام السياسى العمل من خلالها، فإنه يكون من الضرورى، بيان الأصول الأساسية لفقه السنهورى عن الخلافة (الخلافة الإسلامية- سينا للنشر- عام1990- ص233)  

    قدم السنهورى فى مقدمة رسالته (خطة البحث) وقال إنّ نظام الخلافة الذى ((نستعرضه ينطبق على الخلافة الصحيحة التى طــُـبقتْ فى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة)) فكان تعليق المستشارالعشماوى ((وأول ما يؤخذ على منهج البحث ذاك، أنه يبحث ويدورفى نظام لم يـُـطبق على مدى التاريخ، ولايطبق فى العصرالحالى، ولايلوح تطبيقه فى الأجل القريب. إلاّ أنْ يكون البحث- تأييدًا بدعوى الخلافة التى طمع القصرالملكى وطمع الأزهرإلى تعضيده فى ذلك))

    وبعد أنْ ذكرالسنهورى بعض مثالب وعيوب الخلفاء الذين أتوا بعد الخلفاء الأربعة- من وجهة نظره- واعتبرأنّ ما حدث بعد ذلك (خلافة ناقصة) وضرورة التمييزبينها وبين (الخلافة الصحيحة) أى أنه- فى كل الأحوال- مع منظومة الخلافة. كما أنه كتب فى تبريرمفاسد الخلافة ((ونحن لانحاول إنكارالحقائق التاريخية، فتاريخ الخلافة الناقصة، منذ عهد الأمويين ومن بعدهم مليىء بأنواع إساءة السلطة. ولكن هذا الاستبداد مصدره خروج هؤلاء الحكام على قواعد الخلافة الشرعية، فلا يجوزأنْ يـُـقال إنّ مصدره هوالنظام نفسه فنظام الخلافة لايمكن أنْ يكون مسئولاعن الفتن التى حدثتْ فى الدولة الإسلامية..إلخ)) فى هذه الفقرة كرّرالسنهورى دفاعه عن منظومة الخلافة، وأنّ ماحدث (من فتن) ليس بسببها وإنما لأسباب أخرى لم يذكرها.  

    وكان من رأى العشماوى ((بهذا يكون د.السنهورى قد قطع وجزم بخروج جميع الخلفاء المسلمين- بعد عهد الراشدين- على قواعد الخلافة الشرعية، ولذلك قال إنّ نظام الخلافة ليس مسئولاعن ذلك، كما برّرالمظالم والخروج على القواعد بأنها ظاهرة يتسم بها تاريخ الدول جميعـًـا، ولم يشذ المسلمون فى ذلك)) وتساءل- العشماوى- هل يوجد ما يسمى خلافة شرعية؟ أم إنها خلافة تاريخية؟ وهل الخطأ فى المبدأ والقيمة والفكرة، أم فى غيبة المنهج وتغييب عنصرالزمن؟ أم أنّ المبدأ

غيرواقعى والقيمة ليست إيجابية والفكرية مجرد كلام؟

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك