محاكمة الملك

90

كتب القس / أسعد حبيب توما


عزيزي القارئ سوف نبحر معاً من خلال هذا المقال في المحاكمة التي جرت مع يسوع أمام بيلاطس، وبينما نحتفل بهذه الذكرى “الجمعة العظيمة” كما يُسمّيها البعض، اخترت أن يكون موضوع كلامي متمحورًا حول نظرة البشير يوحنا إلى المحاكمة. نجد قصة المحاكمة قد وردت في إنجيل يوحنا (18: 28 ـــ40 ، 19: 1- 16)، إذًا إنّ البشير يوحنا قد أفسح المجال لأحداث القصة ومنحها حيّزًا أوسع بالمقارنة مع الأناجيل الإزائيّة (المتشابهة) أقصد (متى، مرقس، لوقا). ونجد أنّ البشير قد ركّز على جوانب مختلفة من جوانب المحاكمة، فيما أغفل جوانب أخرى كانت قد تناولتها الأناجيل الإزائيّة الثلاث. على سبيل المثال، نرى أنّه لم يأتِ على ذكر اتّهامات الكهنة (كما في متى27: 12، مرقس15: 3)، ولم يذكر المحاكمة أمام هيرودس (لوقا 23: 4 ـــ 12)، والمطالبة بإطلاق بارباس (متى27: 20، مرقس15: 11)، ولكنّه في المقابل سلّط الضوء على المحاكمة أمام بيلاطس ليظهر لنا من هو الملك الحقيقي؟ فبدلاً من أن يُحاكم بيلاطس المسيح حُوكم بيلاطس من المسيح. وإذا تعمّقنا في دراسة النصّ الكتابي، تظهر لنا جوانب مختلفة في شخصيّة بيلاطس أوّلها: رغبته في عدم الإشتراك في المسألة:


من خلال دراسة النصّ، نجد أنّ بيلاطس قد أُعلِمَ سابقًا بهذا الأمر ” وكان صبحٌ” (عدد 28)، فربّما كان مجلس السنهدريم قد أخبره في الليلة السابقة بأنّهم سوف يقبضون على مجرم خطير، يزعزع أمان الامبراطورية الرومانيّة ويهدّد استقرارها، وأنّهم سوف يقبضون عليه ويحضرونه إليه لكي يصدر الحُكم على هذا المجرم الخطير، باعتبار أنّ الوالي الروماني هو المسؤول عن إصدار حكمٍ مثل هذا، لأنّ الامبراطورية الرومانية قد جرّدت مجلس السنهدريم اليهودي من صلاحيّاته في إصدار حكمٍ أو عقوبةٍ بالإعدام. جاء سؤال بيلاطس “أيّة شكاية تقدّمون على هذا الإنسان”؟ (عدد 29)، كجزء من الروتين القانوني المعتاد، إذ كان من المفترض، قبل ذلك، أن يقوم رؤساء الكهنة وأعضاء مجلس السنهدريم بتقديم طلب شكوى رسميّة. فأتى ردّ الكهنة بغضب “لو لم يكن فاعل شرّ لما كنّا قد سلّمناه إليك”. لم تكن غايتهم المحاكمة، بل التصديق على الحكم الذي صدر عنهم، فجاء ردّ بيلاطس القاسي والساخر (في العدد 31). بالفعل لو كان مجلس السنهدريم قادرًا على إصدار الحكم بالموت لكانوا قد رجموه حتى الموت، كما هو منصوصٌ عليه في الناموس (لاويين 20: 27). أمّا موت الصليب فكان وسيلة الإعدام عند الرومان التي تنبّأ بها يسوع (3: 14، 12: 32، 33)، كما أنّ تنفيذ عقوبة الموت هو من صلاحيّة الإمبراطورية الرومانية فقط. لقد كان بيلاطس يرى براءة يسوع من أية جريمة (38) ولم تكن لديه النيّة بالحكم عليه بالموت، وحاول أن يطلق سراحه بحسب العادة التي كانت سائدة عند اليهود والتي بمقتضاها يتمّ إطلاق سجين (39)، كما حاول أن يصدر حكمًا مخفّفًا بحقّه، والتمس من الجميع أن يطلقه (12).


الجانب الثاني الذي يظهر في شخصيّة بيلاطس هو التردّد في أخذ القرار. فنجد من خلال دراسة النصّ الكتابي بتعمّق، أنّ الأفعال التي وردت في النص بين خروج بيلاطس ثمّ دخوله لمشاورة اليهود تتكرّر أكثر من مرّة (خرج عدد 19 ، دخل عدد 33، خرج 38، دخل 18: 1 ، خرج 19: 4، دخل19 : 9 ، أخرج بيلاطس يسوع لإصدار الحكم النهائي 19: 13)، كلّ هذه الأفعال تكشف عن شخصيّة الوالي المتردّد، صاحب القرار لم يملك هو القرار. الجانب الثالث الذي يظهر في شخصية بيلاطس هو الاستماع إلى يسوع. وقد بدأ الحديث بسؤال بيلاطس “أنت ملك اليهود”؟ (18: 33)، نتيجةً للاتهامات التي وجّهت إلى يسوع من قبل رؤساء الكهنة، وكانت هذه التهمة من أخطر الاتهامات بالنسبة للحاكم الروماني، تهمة بمثابة الخيانة العظمى. كان بيلاطس يتوقّع أن يرى شخصًا يشبه ما قد شاهد من قبل من الثوار اليهود الذين قاموا بأعمال شغب وثورات ضد الإمبراطورية الرومانية، ولكنّه قد رأى أمامه يسوع بثياب متّسخة. وقد فاجأه يسوع بردّه “أمن ذاتك تقول هذا؟” لقد نظر إليه يسوع كشخص مساوٍ له، فما عناه يسوع بسؤاله: هل يتصرّف بيلاطس من تلقاء ذاته أو نتيجة ادعاءاتٍ كاذبة وملفّقة سمعها من الآخرين؟ وعلى الفور ظهرت كراهيّته لليهود، وهنا نجد الملك الحقيقي الذي يستحقّ الموت وليس يسوع، فنجد ملكًا يقدّم نفسه عن الآخرين، وملكًا يكره من يملك عليهم، ونجد يسوع يعلن لنا مفهوم المملكة الحقيقيّة، “مملكتي ليست من هذا العالم” (18: 36)، وشدّد يسوع على كونه ملكًا في العدد 37، وإنّه بالفعل قد ولد ملكًا، ليشهد للحقّ. وجاء سؤال بيلاطس ماهو الحقّ؟ في العدد 38، فقد كان لديه يقين كامل ببرءاة يسوع من كلّ التهم الموجّهة إليه، ومع ذلك لم يصدر القرار لإطلاق سراحه، بالرغم من أنّ القرار بيده، ولكنّه لم يكن مستعدًّا لأن يُجري العدل للمظلوم، وعلى الرغم من تصريحه بأنّ يسوع بريء من تلك التهم الموجّهة إليه. فأين سلطان الملك الذي تكلّم عنه حين قال “ألستَ تعلم أنّ لي سلطاناً أن أصلبك وأن أطلقك”؟ (10) من يملك سلطان الملك الحقيقي بيلاطس أم المسيح؟ في نهاية حديثي عن المقارنة بين بيلاطس والمسيح لنكتشف من هو الملك الحقيقي، بيلاطس الذي كان يخاف على مكانته، الشخصيّة المتردّدة، والمتعجرفة، والساخرة، يكره من يملك عليهم، هو ملك ولكن مقيّد لا يستطيع أن يصدر القرار ببراءة يسوع، لا يساند المظلوم بالرغم من اعترافه بأنّه بريء، كان مقيّدًا بالمنصب، خائفًا من غضب اليهود. اً


مقيّدًا بالمنصب، خائفًا من غضب اليهود. ولكنّ المفارقة أنّ يسوع قد أسلم نفسه طوعاً للصليب، لم يكن يخاف الموت، قدّم نفسه للموت من أجل أعدائه، وأحبائه، كان هو الملك الحقيقي، صاحب الملك باقٍ إلى الأبد، ملكوته إلى إبد الآبدين. أختم بسؤال: أيّ ملك تتبع؟ ملكًا حقيقيًّا أم ملكًا مزيّفًا؟ دعوتي إليك أن تتبع يسوع الملك الحقيقي.

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك