مصر الحضارة

90

الكاتب طلعت رضوان  يكتب :

ولع شعبنا بالاحتفالات وصناعة البهجة   

    تختلف الشعوب فى احتفالاتها (سواء فى المناسبات القومية أوالمناسبات الدينية) والسبب الوحيد للاختلاف بين شعب وشعب هو(الثقافة القومية) لكل شعب..والثقافة القومية– وفق تعريفها العلمى– تعنى مجموع أنساق القيم التى أبدعها شعب من الشعوب عبرتاريخه الممتد..والتى تتجسّد فى عاداته: من سلوك يومى ومن طقوسه وأساطيره أوحتى من خرافاته..ومن نظرته للمرأة (مدى احترامه لها أوالعكس) وطريقة استقباله للضيوف..وطريقة دفنه لموتاه..وفلسفته نحو الحياة والموت إلخ.  

   

    ولكن تلك الثقافة القومية، أحيانـًا تتعرّض للهجوم عليها، كما حدث فى مصربعد غزو التليفزيون لعقول شعبنا، حيث تغيرالكثيرمن العادات والسلوكيات..وكان أبرزمعالم هذه التغيرات  الجنوح إلى تبنى قيم نقيضة لأنساق القيم التى توارثها شعبنا عبرآلاف السنين، مثل الوأد الاجتماعى والمعنوى للمرأة، ومثل تكفيرالكثيرمن المنتج الثقافى القومى (فرض تحية واحدة ضد تعدد التحايا المصرية، تحريم الاحتفال بسبوع الطفل، تحريم خميس وأربعين المتوفى، فى اللقاءات العائلية تجلس النساء فى غرفة والرجال فى غرفة أخرى إلخ– مجرد نماذج) 

    ورغم هذه التغيرات السلبية المعادية لثقافتنا القومية، ظلّ الأميون المصريون، على رأس خط الدفاع الأول عن خصوصيتنا الثقافية، حتى فيما يتعلق بالاحتفال بالمناسبات الدينية، التى يراها الأصوليون أنها ضد تعاليم الإسلام، مثل ظاهرة الاحتفال بأولياء الله، وهى ظاهرة شديدة الأهمية لدى الباحث صاحب العقل الحر، لأنها الدليل الساطع سطوع شمس بؤونة على وحدة شعبنا، فهذا الولع بالاحتفال بالأولياء اشترك فيه المسلمون والمسيحيون، لسبب بسيط وهوأنهم أبناء ثقافة قومية واحدة، تعود جذورها إلى الاحتفال بالآلهة المصرية..والمصريون المسلمون يحتفلون بمولد نبى الإسلام بينما العرب لايحتفلون بهذه المناسبة، ويرى الأصوليون أنها بدعة ضارة، وحجتهم أنّ الرسول لم يحتفل بعيد ميلاده، وهذا عكس ثقافتنا القومية التى عرفتْ تعدد الاحتفالات، ويكفى أنْ نعرف أنّ عيد رأس السنة من إبداع الحضارة المصرية..وأنّ جدودنا المصريين القدماء كانوا يحتفلون بمناسبة عيد ميلاد الطفل، بعد مرورعام من مولده، وأنّ هذا التقليد أخذه اليونانيون من مصرثم انتقل إلى أوروبا.

    والعقل الحريتساءل: لماذا يكون احتفال شعبنا بشهررمضان مختلفًا عن استقبال العرب لهذا الشهر؟ إبداع يأخذ أشكالا متعددة، بدءًا بتعليق أوراق الزينة فى الحارات الشعبية، وكثرة الاضاءة  وإبداع فانوس رمضان، والزيارات المتبادلة بين الأسر، وإبداع المواويل والرقصات إلخ وهى كلها مظاهرلم يعرف العرب إلاّبعضها مؤخرًا تأثرًا بثقافتنا القومية. وعن تجربة شخصية (منذ طفولتى وحتى الآن) عرفتُ بعض الأسرالمصرية مسيحية الديانة، كان بعض أفرادها يصومون معنا فى شهررمضان، وعرفتُ سيدات مصريات مسلمات يشاركن جاراتهنّ المسيحيات فى صيامهن، وعرفتُ سيدات مصريات مسلمات ينذرنّ النذورللسيدة مريم العذراء، وعرفتُ سيدات مصريات مسيحيات ينذرنّ النذور للسيدة زينب..وما لمسته وعايشته بنفسى أكد عليه عالم الاجتماع الكبيرد. سيد عويس فى أكثرمن كتاب من كتبه.

    فإذا انتقلنا إلى الاحتفال بعيد الفطرعقب نهاية شهررمضان، نجد ظاهرة غاية فى الأهمية والخصوصية فى نفس الوقت، ألاوهى ظاهرة (كعك العيد) فهذه الظاهرة تحمل فى طياتها الدليل الآخرعلى وحدة ثقافتنا القومية، حيث يشترك فيها المسلمون والمسيحيون، كجزء من الاحتفال بنهاية شهر/ شهورالصوم عند المسيحيين والمسلمين. المظهرالثانى فى ظاهرة الكعك، هو أسلوب عمل الكعك، حيث أنّ النقش الذى يتم على قرص الكعكة، هوقرص الشمس (رمزالإله رع) مثلما كان يفعل جدودنا فى مصرالقديمة. كما أنّ تعدد الأصناف من بسكويت وغريبة وقراقيش و(منين) إلخ هوامتداد لتعدد صناعة الخبزوالحلويات فى مصرالقديمة، لدرجة أنّ بعض علماء علم المصريات وعلم الآثار، وجدوا أنّ جدودنا المصريين القدماء صنعوا ستين شكلا لرغيف الخبز(فرانسوا دوما- حضارة مصرالفرعونية- ص745) المظهرالثالث فى الاحتفال بنهاية شهر/ شهورالصوم عند شعبنا (مسيحيين ومسلمين) هو(طلوع القرافة) للترحم على أمواتنا، ولا تكتمل زيارة المقابرإلاّ بحمل القفف والسلال الممتلئة بأقراص الكعك والشريك والمنين التى أبدعتها يد المصريات، لتوزيعها على الأطفال فى المقابر..والباحث الحريبتهج عندما يقرأ فى كتب علم المصريات أنّ تعبير(الرحمة) الذى يستخدمه شعبنا عند توزيع الكعك والبلح، هوالترجمة العربية لذات التعبيرالهيروغليفى الذى كان جدودنا المصريون القدماء يستخدمونه عند زيارة المقابر.

    فى اليوم الأول للعيد، وبعد الافطار، يكون الطقس المقدس، أى تناول الكعك والبسكويت مع الشاى بالحليب، وهوطقس مصرى لاعلاقة له بالدين..وبعد الانتهاء من زيارة المقابر، تنطلق الأسرللاحتفال بالعيد الذى يأخذ العديد من الأشكال: الذهاب إلى الحدائق العامة، ركوب المراكب فى النيل، زيارات عائلية بين الأسرذات المستوى الاجتماعى الواحد، والأسرذات الثراء المادى تزورالأسرالفقيرة وتقديم الهدايا..ولعلّ ظاهرة (العيدية) التى نشأنا عليها منذ طفولتنا، أى المبلغ النقدى الذى يحصل عليه الطفل من أبيه ومن عمه ومن خاله إلخ هى ظاهرة تكاد تكون مصرية 100% وربما لايكون لها أى مثيل فى أى مجتمع آخر.

    وإذا كان الإسلام يعتنقه الكثيرمن الشعوب، وكذلك الديانة المسيحية، إلاّ أنّ الظاهرة التى يتجاهلها كثيرون، هى أنّ المسلمين والمسيحيين المنتشرين فى العالم، يختلفون فى طقوس احتفالاتهم. فما دلالة هذه الظاهرة الساطعة سطوع شمس أبيب؟ الدلالة المؤكدة هى أنّ لكل شعب خصائصه القومية، المُـجسّـدة فى أنساق قيمه ومجمل عاداته وطرائق تفكيره إلخ. يؤكد ذلك أنّ الشعب السعودى يحتفل بعيد الفطروعيد الأضحى، بالذهاب إلى المناطق الصحراوية ونصب الخيام وشى اللحوم. هذا هوالمظهرالوحيد للاحتفال بالعيد، والذى عبّرعنه الأديب الكبيرسليمان فياض فى روايته البديعة (لا أحد) إذن فكما أنّ الشعب السعودى له خصوصيته القومية، كذلك نحن المصريين لنا خصوصيتنا القومية، خصوصية تأسّستْ على التعددية ضد الأحادية، على تبجيل الطبيعة، على البهجة لمقاومة الانكسار، على الاستفادة من خبرة تواصل الأجيال (زيارة المقابرنموذجًا) هذه الخصوصية القومية هى التى أبدعتْ الكثيرمن أشكال الاحتفالات، مثل الاحتفال بمقدم فصل الربيع (شم النسيم) والاحتفال بموسم الفيضان (وفاء النيل) والاحتفال بأولياء الله. والاحتفال ب (طلعة رجب = يوم 27 من شهررجب) والاحتفال ب (نُص شعبان) إلخ ورغم أنّ المناسبات الأخيرة دينية، فإنّ الكثيرمن الشعوب الإسلامية لاتعرف الاحتفال بها كما يفعل شعبنا. ونفس الشىء نجده عند تعدد احتفالات المصريين المسيحيين، ولعلّ أبرزها تعدد الاحتفال بالقديسين، والتى يحضرها مسلمون مع المسيحيين، بل إنّ تعدد مناسبات الصيام عند المصريين المسيحيين، لامثيل له عند بعض الشعوب الأخرى المؤمنة بالديانة المسيحية.

    إنّ ما ذكرته من أمثلة قليلة، يؤكد على حقيقة أنّ لكل شعب خصائصه الثقافية القومية. وأنّ الثقافة السائدة فى مصرتحاول محوخصوصية شعبنا، سواء من خلفيات أيديولوجية سياسية، أومن تعصب عرقى أومن دوافع عاطفية، وكل هذا ضد لغة العلم الذى ينفرمن أية أيديولوجيا، ويستبعد العواطف عند رصد المظاهرالاجتماعية.

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك