أساطير شعوب ما قبل التدوين

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

    ينتشربين بعض المُـتعلمين المحسوبين على الثقافة السائدة تعبير(الشعوب البدائية) بينما رفـَـضَ هذا التعبيرمعظم علماء الأنثروبولوجيا، ويـُـفضــّـلون تعبير(شعوب ما قبل التدوين) أى قبل اكتشاف أول أبجدية فى العالم القديم، على جداريات المعابد المصرية. وأعتقد أنّ تعبير(شعوب ما قبل التدوين) أدق وواقعى بمراعاة أنّ علماء الآثاراكتشفوا أنّ تلك الشعوب القديمة كانت تمتلك خيالاخصبـًـا، أنتج عددًا من الأساطيرلاتختلف كثيرًا (إلاّفى التفاصيل) عن أساطيرشعوب التدوين، والأكثرمن ذلك أنها تتطابق مع كتب الديانة العبرية، مثل خلق الإنسان من طين أومن تراب، كما أثبت العالم الكبيرجيمس فريزرفى موسوعته (الغصن الذهبى)  

    وكان المفكرالسورى الكبير(فراس السواح) أحد المُـهتمين بدراسة شعوب ما قبل التدوين، خاصة فى كتابه (مغامرة العقل الأولى) الذى- نظرًا لأهميته طـُـبع منه عشرطبعات (على حد علمى) وهى الطبعة الصادرة عن دارعلاء الدين بدمشق- عام1993)  

    كما يجب التفرقة بين (شعوب ما قبل التدوين) أى قبل اكتشاف أبجدية كل شعب، وبين الشعوب القديمة السابقة على ظهورالديانة العبرية.

    وعلى سبيل المثال وُجدت أسطورة فليبينية جاء بها أنّ تنوع ألوان بشرة الإنسان راجع إلى ساعة الخلق، عندما وضع الإله الخالق حفنة من طين فى الفرن لصنع الإنسان: فى المرة الأولى لم يكن الطين قد نضج على النارفخرج الإنسان أبيض البشرة..وفى المرة الثانية ترك الإله الطين مدة طويلة على النار، فخرج الإنسان أسود البشرة نتيجة احتراق الطين..وفى المرة الثالثة كانت النارهادئة ومتوسطة (دون زيادة أونقصان) فخرج الإنسان البرونزى (الفليبينى)  

    وتقول أسطورة إغريقية أنّ (هرقل) قد أرضعته الإلهة (هيرا) ولشدة قوته شعرتْ بالألم فى ثديها من شدة الامتصاص، فأجبرها على سحب ثديها من فمه بقوة، فانبثق اللبن فى السماء، مكونــًـا المجرة المعروفة باسم (درب اللبن)  

    وكان تعليق فراس السواح: أنّ الأسطورة ليست نتاج الخيال المجرد (وحده) بل ترجمة لملاحظات واقعية ورصْد لحوادث جارية..وعبرها انتقلتْ إلينا تجارب الأولين وخبراتهم. والأسطورة تعود فى أصولها إلى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب. فقبل أنْ يتعلم الإنسان الكتابة، كانت ذاكرته على قدركبيرمن النشاط والحيوية..وقد أثبت رواد علم الأنثروبولوجيا الكثيرمن الأساطيرالتى أبدعتها الشعوب القديمة، ثم جاءتْ فى كتب الديانة العبرية، مثل أساطيرالطوفان أوالدمارالشامل بالنارالسماوية..والدرس هوأنّ شمولية هذه الأساطيروتكرارها لدى معظم الشعوب، دلالة على تجارب وخبرات عاشها البشرفى مطلع حياتهم.

    وذكرأنّ رائد علم الأنثروبولوجيا الحديثة هو(جيمس فريزر) وأنه بالرغم من النقد الذى وُجـّـه إليه من البعض، وبعد مرور80سنة على ظهوركتابه الفريد (الغصن الذهبى) فإنّ تأثيرذلك العبقرى مازال ماثلا، وأنّ آراءه مازالت تلقى الاحترام لدى الكثيرين.

    وكان من رأى فريزرومن تأثروا بكتاباته، أنّ الأسطورة كان مرجعها الطقوس..وبعد مرور زمن طويل على ممارسة طقس معين..وفقدان الاتصال مع الأجيال التى أنتجته، يبدوالطقس خاليــًـا من المعنى ومن السبب والغاية منه..ولذلك فإنّ الأجيال الجديدة تبحث عن (المبرر) لإحياء الطقس القديم..وعلى سبيل المثال فإنّ قيام أتباع ديانة (ديونيسوس) بشرب دم ثورحى بعد تمزيقه وأكل لحمه نيئا، هوطقس قديم، فأتتْ أسطورة موت (ديونيسوس) على يد (التيتان) مفسرة له ومحافظة عليه. حيث أنّ (ديونييسيوس) يحاول الهرب من (التيتان) أعداء أبيه (زيوس) ولكن عبثــًـا يـُـغيرأشكاله وهم يتبعونه إلى أنْ قبضوا عليه فى هيئة ثورفينهالون عليه تمزيقــًـا ويلتهمونه حيـًـا ويشربون دمه.

    وفى رأى البعض أنّ عالم الأنثروبولوجيا (مالينوفسكى) هومؤسس مدرسة (الأسطورة والذرائعية) وهوالذى قضى شطرًا من حياته فى دراسة تجريبية مع (قبائل التروبرياند) فى غرب المحيط الهادى أثناء الحرب العالمية الثانية..ويـُـعد من أشهرناقدى جيمس فريزر.

    ومن رأى مالينوفسكى أنّ الأسطورة لم تظهراستجابة لدافع المعرفة والبحث..ولاعلاقة لها بالطقس أوالبواعث النفسية، بل هى تنتمى للعالم الواقعى وتهدف إلى تحقيق غاية عملية، ولترسيخ عادات قبلية معينة أولتدعيم سيطرة قبيلة أوعشيرة أونظام اجتماعى.

    وقـدّم عالم النفس (إريك فروم) الذى يعتبر(آخرعمالقة مدرسة التحليل النفسى) فى كتابه (اللغة المنسية) دراسة عميقة للأسطورة، منطلقــًـا من فكرة فرويد عن العلاقة بين الأسطورة والحلم، مع مخالفته فى النظرللأسطورة والحلم على أنهما نتاج العالم اللاعقلانى. فالعقل فى حالة الحلم إنما يعمل ويفكر..ولكن بطريقة أخرى ولغة أخرى. فعندما ندخل ملكوت النوم نتحررمن عبء العمل ومشاغل الحياة اليومية وقلق الصحو..وندخل إلى عالمنا الداخلى بعيدًا عن قواعد الواقع، فتغدو(الأنا) بؤرة تفكيرنا..وإذا كان الصحودعوة للعمل والفعل، فإنّ النوم دعوة للتأمل من نوع خاص ويستخدم لغة خاصة هى لغة الرمز. إنّ النوم انفلات من هموم التفكيربعالم المادة..ويجعلنا أكثرشفافية، فتغدومعرفتنا بأنفسنا أكثروضوحـًـا وصدقــًـا وحكمة. حيث أنّ حالة السُـبات هى القطب الثانى لوجودنا، فى مقابل حالة اليقظة..ومع ملاحظة أنّ لغة الرمزتتجاوزالواقع والزمن والثقافة والجنس..والأسطورة مثل الحلم، تكمن أهميتها فى تقديمها حكايات تــُـعبربلغة الرمزعن الأفكارالدينية والفلسفية والأخلاقية..وكلما تعمقنا فى فهم هذه اللغة الرمزية، انفتح العالم أمامنا بمعارف غنية.

    وذكرفراس السواح أنه عندما انتصب الإنسان على قائمتيـْـن..ورفع رأسه إلى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها..وأداررأسه فيما حوله، فرأى الأرض وتضاريسها ونبتاتها وحيواناتها، ولكن أرهبته الصواعق وخلبتْ لبه الرعود والبروق..وداهمته الزلازل والبراكين والأعاصير. ولاحقته الضوارى.. عندئذ رأى الموت..وتساءل لماذا وُجدنا ولماذا نموت؟ ولماذا خـُـلق الكون وكيف؟ ومن أين تأتى الأمراض ومن الذى يرسلها إلى البشر؟

    كان العقل فى البداية صفحة بيضاء لم يـُـنقش عليها شىء. فكان على الإنسان الأول أنْ يبدأ مغامرة كبرى مع الكون، فقفزأولى خطواته نحوالمعرفة فكانت الأسطورة..وعندما تأكد من أنّ أعمال السحروهم خادع، كانت الأسطورة كل شىء بالنسبة له.

    وبعد آلاف السنين ومع ظهورالأبجديات، بدأتْ تظهرالأساطيرالمُدونة، فكانت أسطورة التكوين البابلية وتبعتها أسطورة التكوين العبرية. وقد وضعتْ معظم الأساطيرالسورية والسومرية والبابلية فى أجمل شكل شعرى..وتولى هوميروس صياغة معظم أساطيرعصره المتداولة، شعرًا فى الأوديسة الإلياذة..وقد استفاد كتاب المسرح اليونانى من الأساطيرالتى ذكرها هوميروس..ولدى البعض أنّ تعبيرالأسطورة يمتزج بالخرافة والحكاية الشعبية، رغم البعد الشاسع بين الأنواع الثلاثة: إنّ الخرافة حكاية بطولية مليئة بالمبالغات والخوارق مع إنّ أبطالها من البشرأوالجن ولادورللآلهة فيها..وفى حديث نبوى عن عائشة قالت ((حدّث رسول الله نساءه ذات ليلة حديثــًـا، فقالت امرأة: يا رسول الله كأنّ الحديث (الذى رواه الرسول) حديث خرافة. فقال: أتدرون ما الخرافة؟ إنّ (خرافة) كان رجلا من أسرة الجن فى الجاهلية، فمكث دهرًا طويلا ثم ردّته الجن إلى الإنس. فكان يـُـحدّث الناس بما رأى من الأعاجيب. فقال الناس: حديث خرافة)) (مسند ابن حنبل- المطبعة الميمنية بمصر- عام1313هـ – ج2- ص281) وبغض النظرعن صحة الحديث حول معنى كلمة (خرافة) عند العرب، فإنّ القرآن ذكرعلاقة الأسطورة (فى اللغة العربية) بالتصورات الدينية والاعتقادية..وذلك فى آية ((وقالوا أساطيرالأولين اكتتبها فهى تــُـملى عليه بكرة وأصيلا)) (الفرقان/ 5)

    أما الحكاية الشعبية فإنها كالخرافة لاتحمل طابع القداسة..ولاتتطرق- كما هوشأن الأسطورة- إلى موضوعات الحياة الكبرى..وقضايا الإنسان المصيرية.  

    وذكرفراس السواح أنّ الهدف من كتابه: التعريف بالأسطورة فى سوريا القديمة وبلاد الرافدين..وشرح كيف عانى فى الحصول على النصوص الكاملة لأهم الأساطيرالمعروفة لتقديمها للقارىء، كما أنه اعتمد على أكثرمن نص وأكثرمن ترجمة للنص الواحد (بهدف المقارنة والتدقيق) واعترف بأنه حاول الالتزام بأكبرقدرمن الموضوعية لتكون ترجمته للنصوص (ترجمة أمينة وبدون تدخل أوتزويق) كما أنّ شرحه لكل أسطورة وتفسيرها لم يكن بمعزل عن باقى الأساطير، بهدف تقديم صورة متكاملة  تستمد تفسيرها من البنية الاجمالية للعمل..وأشارإلى أنّ منهجه فى تقديم الأساطيريعتمد على جمعها فى مجموعات وفق موضوعاتها، لاوفق تسلسل زمنى أوموقع جغرافى، لاعتقاده بأنّ تفسيرأى أسطورة يبدوعصيـًـا، إذا لم ينظرإليها من خلال منظورشامل يجمعها مع غيرها من الأساطيرالتى تعالج نفس الموضوع.

    وذكرلماذا اختارأساطيرسوريا وبلاد الرافدين (أساطيربابل) لثلاثة أسباب الأول: الوحدة الثقافية القائمة فى هذا الجزء من المنطقة..وهذه الوحدة تعطى لأى باحث يدورحولها طابع الانسجام والتكامل..والسبب الثانى: راجع لاتساع الموضوع وتشعبه، مما لايسمح بدراسة وافية لميثولوجيا الشرق القديم فى كتاب واحد ومن مؤلف واحد..والسبب الثالث: (شخصى جدًا) ويرجع إلى ميل المفكرالسواح إلى آداب المنطقة وولع بتاريخها وتراثها.

    وفى مقالاتى التالية سأحاول عرض أهم فصول الكتاب.   

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك