المواجهة بين الجامعة المصرية وفكرة (الجامعة الإسلامية)

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

    كان جمال الدين الإيرانى الشهيربالأفغانى يـٌـروّج لفكرة (الجامعة الإسلامية) بينما دافع أحمد لطفى السيد عن (الجامعة المصرية) وقد شهد عصرمحمد على (1805- 1848) نهضة فكرية فى الواقع المصرى، بعد مئات السنين من الظلم والظلام، بسبب الغزوات العديدة التى تعرّض لها شعبنا واحتلال أراضينا، من دول عديدة وجنسيات مختلفة، سواء فى العصورالقديمة (الهكسوس، الفرس، اليونان، الرومان) أوفى العصرالوسيط (العرب، وما تبع احتلالهم لمصرمن أنظمة ارتدتْ رداءً خادعًا تحت اسم “الخلافة الإسلامية”) حتى كانت المحطة الأخيرة فيما يُسمى (الفتح العثمانى)  و(الخلافة العثمانية) وكأنّ مصر(شقة مغلقة) طوال عمرتاريخها وتنتظرمن (يفتحها) وكان هذا (الفتح العثمانى) من أسوأ أشكال الاحتلال، كما أجمع على ذلك المؤرخون الذين رفضوا وضع عقولهم داخل أية قوالب، إلى أنْ حدث الانعتاق فى عصرمحمد على بظهورعدد من المفكرين المصريين الذين رفعوا راية التنوير، ورفض كل الغزاة والمحتلين، لا الإنجليز ولا العثمانيين، فى رد على مصطفى كامل المنحازللاحتلال العثمانى.

    وقد تواكب مع حركة النهضة المصرية منذ بداية القرن19ظهورعدد من المفكرين المصريين الذين أثروا الواقع الثقافى كان من بينهم أحمد لطفى السيد (1872- 1963) الذى ترجم بعض كتب أرسطو. وأنشأ (مع آخرين) صحيفة الجريدة عام 1907وجاء فى افتتاحية العدد الأول ((الجريدة صحيفة مصرية. شعارها الاعتدال ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقى..إلخ)) وبعد ظهورصحيفة الجريدة ببضعة شهورتم الإعلان عن (حزب الأمة) يوم21  ديسمبر1907وتضمّن برنامجه عدة مبادىء على رأسها المطالبة بالاستقلال التام (خروج الإنجليزمن مصر) والمطالبة بالدستور. وعندما أعلن الحزب برنامجه اعترض الشيخ على يوسف صاحب صحيفة المؤيد على مطلب الاستقلال التام، لأنّ معنى هذا خروج على الدولة العثمانية ((صاحبة السيادة الرسمية على مصر)) كان لطفى السيد يعنى باسم الحزب (الأمة المصرية) ومن هنا كانت كل كتاباته عن تعميق مغزى (القومية المصرية) وكان الجناح الثانى فى مشروعه الفكرى (علمنة مؤسسات الدولة) بترسيخ آليات الليبرالية. وكان الوطن مُحرّك هذيْن الجناحيْن.  

    وكتب ((نشأتُ فى أسرة مصرية لاتعرف لها إلاّ الوطن المصرى. ولاتعتزإلاّبالمصرية. ولاتنتمى إلاّ إلى مصر. ذلك البلد الذى نشأ التمدن فيه منذ أقدم العصور. وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقى)) ولأنّ مفهوم الوطن راسخ فى وجدانه، كتب بوضوح  أكثر((إننا نحن المصريين نحب بلادنا ولا نقبل مطلقــًا أنْ ننتسب إلى وطن غيرمصر، مهما كانت أصولنا حجازية أوسورية)) (الجريدة 9/1/1913) وكتب أيضًا ((كنتُ منذ زمن طويل أنادى بأنّ مصرللمصريين. وأنّ المصرى هوالذى لايعرف له وطنــًا آخرغيرمصر. أما الذى له وطنان: يُـقيم فى مصرويتخذ له وطنــًا آخرعلى سبيل الاحتياط، فبعيد عليه أنْ يكون مصريًا بمعنى الكلمة. ولكننى أريد أنْ يتحمّل كل قاطن فى مصرمن الواجبات ما يتحمّله المصريون لتحقيق القومية المصرية. فقد كان من السلف (إشارة إلى الأفغانى) من يقول بأنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين. وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها ونشرنفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد. تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصرالقوى الذى يفتح البلاد باسم الدين. ولهذا أصبحتْ هذه القاعدة لاحقّ لها من البقاء. لأنها لاتتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها. فلم يبق إلاّ أنْ يحل محلها المذهب الوحيد المُتفق مع كل أمة شرقية لها وطن محدود وهومذهب الوطنية. ولايُفهم مما أقول أنى كنتُ أدعوإلى التفريق بين العناصرالمؤلفة لكتلة السكان المصريين، بل على ضد ذلك كنتُ أدعوللجامعة المصرية. دعوتُ الذين يتبرّمون من الجنسية المصرية التى كسبوها بالإقامة فى مصرأنْ لايفروا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية. إنهم يُـقيمون فى مصربأجسادهم وعقولهم وقلوبهم تتجه غالبًا خارج حدودها إلى الأوطان التى ضنـّتْ عليهم بخيرها. إنّ مصريتنا تقضى علينا أنْ يكون وطننا هوقبلتنا. وأنْ نـُكرّم أنفسنا ونـُكرّم وطننا فلا ننتسب إلى وطن غيره ونخصه بخيرنا)) (قصة حياتى– من ص107- 109)

    وبهذا يكون لطفى السيد قد امتلك شجاعة الرد على التوجه الأصولى الذى بدأه جمال الدين الإيرانى الشهيربالأفغانى الذى طلب من المسلمين أنْ ((يعتصموا بحبال الرابطة الدينية التى هى أحكم رابطة اجتمع فيها التركى بالعربى والفارسى بالهندى والمصرى بالمغربى. وقامتْ لهم مقام الرابطة الجنسية)) (العروة الوثقى 24/8/1884) وكتب ((لاجنسية للمسلمين إلاّفى دينهم)) (العروة الوثقى 26/7/1884) وكرّرنفسه فكتب ((إنّ المسلمين لايعرفون لهم جنسية إلاّفى دينهم واعتقادهم)) (العروة الوثقى 14/8/1884) أما أخطرما روّج له فهومحاولة إقناع الشعوب بالاحتلال الأجنبى وعدم مقاومة الاستعمارتأسيسًا على قاعدة (الرابطة الدينية) التى ألحّ عليها كثيرًا فى كتاباته فكتب ((أرشدنا سيرالمسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن (أنهم) لايتقيّدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس. وإنما ينظرون إلى جامعة الدين. لهذا نرى المغربى لاينفرمن سلطة التركى. والفارسى يقبل سيادة العربى. والهندى يذعن لرياسة الأفغانى. لا اشمئزازعند أحد منهم ولا انقباض)) (العروة الوثقى28/8/1884)

    ردّ لطفى السيد على ذاك التوجه الأصولى الهادم للإنتماء الوطنى فكتب ((إنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين هى قاعدة استعمارية يفضح التحدث بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها ونشرنفوذها)) (الجريدة 16/1/1913) وهوما كتبه بعد ذلك فى مذكراته. وكتب أيضًا ((الإسلام ليس لمسلم بوطن. فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (الجريدة 10/3/1907) وفى مقال آخركتب ((إنّ أول معنى للقومية هوتحديد الوطنية المصرية والاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركى على وطنه والإنجليزى على قوميته)) وأوضح ضرورة الاعتماد على الذات، فكان بذلك يرد على الأفكارالمطروحة آنذاك، خاصة مصطفى كامل الذى كان يرى ضرورة الارتباط بالدولة العثمانية. وطالب ببقاء الصلة بين عابدين/ ويلزقوية (صحيفة اللواء18/1/1900) فكتب لطفى السيد يرد على ذاك الوهم ((يجب ألاّنقع مرة ثانية فى حبال ذلك الوهم القديم الذى كان يُراود أمتنا الوقت بعد الوقت. إذْ كان يُقال مرة أنّ فرنسا ستـُحرّربلادنا ومرة أنّ الدولة العلية (العثمانية) ستقوى وبحقنا عليها تـُسفك دماء أبطالها لتـُخرج الإنجليزمن بلادنا. ثم هى بعد ذلك تتركنا لأنفسنا فى بلادنا أحرارًا. لابد من عزة تربأ بنا عن أنْ نطلب من غيرنا أنْ يأتى ليُحرّرنفوسنا من الرق ومن عبادة القوى. إنّ الاعتماد على المعاهدات الدولية صارمودة قديمة فلاينفع مصرشيئــًا، وإنما الذى ينفعها هوألاتنى لحظة واحدة عن العمل لذاتها وعن إثبات شخصيتها وقوميتها)) (الجريدة2/9/1912)

    وردًا على الذين خلطوا (ولازالوا) بين القومية والدين كتب ((إنّ القول بأنّ مصرليست للمصريين فقط، بل هى وطن لكل مسلم يحل فى أراضيها سواء أكان عثمانيًا أم فرنسيًا أم إنجليزيًا، وعلى ذلك تكون القومية المصرية منعدمة. ومتى انعدمتْ القومية فكيف نفهم الاستقلال)) (الجريدة1/9/1912) وردًا على دعاة الجامعة الإسلامية أمثال الأفغانى كتب ((الجامعة الإسلامية لا أثرلها فى مصرولانظن لها وجودًا فى غيرمصر)) (قصة حياتى ص 52والجريدة 7/5/1907) وظنّ كثيرون أنّ الأفغانى (وحده) هومخترع مصطلح (الجامعة الإسلامية) بينما الحقيقة أنّ الإنجليزلهم دورفى ذلك. كتب لطفى السيد ((إنّ أحسن ما قرأنا فى موضوع الجامعة الإسلامية هوما ذكره أ. براوان فى خطبته التى ألقاها فى جامعة كمبردج سنة 1903 وأبان فيها أنّ الجامعة الإسلامية هى خرافة ابتدعها دماغ مكاتب التيمس فى فينا)) ولخـّـص لطفى السيد الخطاب الذى ألقاه لورد كرزون فى كلية (عليكره) فى شهرمايو1901 مشيرًا فيه إلى فوائد الدين الإسلامى. وعلق لطفى السيد على ذلك الخطاب قائلا إنه جعل الناس ((يُجمعون على أنّ اللورد أراد أنْ يُصوّرالمصريين للإنجليزخصوصًا ولأوروبا عمومًا بصورة أمة غيرقابلة للترقى لتسهل بذلك الموافقة على محوالجنسية المصرية التى يُحاول محوها منذ عاميْن لذلك قصد تجسيم الجامعة الإسلامية وعزا لها ماعزا)) (قصة حياتى- من ص49- 51) ولهذا كان لطفى السيد مع فكرة (الجامعة المصرية) لمواجهة فكرة (الجامعة الإسلامية)

    وعن موقفه من توفيق الذى طرد الإنجليزوالده إسماعيل من أجله، كتب لطفى السيد عن التحالف بين توفيق والإنجليز((تبدأ سياسة الوفاق من عهد الخديومحمد توفيق. فقد دخل الإنجليز مصرعلى وفاق بينه وبينهم. فألغوا الجيش المصرى واستبدلوا به جيشًا صغيرًا ضباطه من الإنجليز. ثم محوا العلوم الحربية. ودلّ هذا التصرف على أنّ الغرض منه إضعاف مصربإضعاف الجيش. وتلك كانت إحدى نتائج الوفاق والتسليم للإنجليزبعمل ما يُريدون)) (قصة حياتى- ص61)

***

    وفى ترسيخ آليات الليبرالية كتب عن التعليم ((إنّ الهدف من التعليم الجامعى أساسه حرية التفكيروالنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل مايُـقال)) (المنتخبات ج2ص38) وفى تعريفه لمفهوم الدولة كتب أنّ لها ((وظائف محدّدة هى الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن المجتمع ضد العدوان. ويحق للدولة- للقيام بهذه الوظائف- التدخل فى حقوق الفرد. أما ما عدا ذلك فأى تدخل منها جائر. مع العلم أنّ بعض أنواع التدخل أشد خطرًا من سواه، خصوصًا العبث بحرية القضاء أوبحرية الكتابة والقول والنشروتأليف الأحزاب)) (المنتخبات ج1ص 106، ج2 ص 58) وهاجم قانون الجمعيات الأهلية الذى أصدرته الحكومة ((لأنها سنـّتْ تمثيل الأقليات وفرضتْ أقلية قبطية سياسية وأقلية بدوية سياسية)) وركزفى كل كتاباته على حقوق المواطنين مثل الحرية الشخصية- بمعناها العام- وحرية الفكروالاعتقاد وحرية الكلام والكتابة. وإذا كان الفرد خـُـلق حرًا فإنّ الأمة تألفتْ حرة أيضًا. ونادى بضرورة استقلال القضاء. فإنْ لم يكن القضاء حرًا ومستقلا فمصالحنا همل وحريتنا هراء. وعن الصحافة ذكرأنها صانعة الرأى العام وهى الحكومة الحقيقية للبلاد المتمدنة. ولذلك فإنّ ((خيما تفعل الحكومات لنفسها وللأمة التى تحكمها أنْ تكون مع الصحافة على غاية من التسامح، فلا تقف فى طريق رقيها، لأنّ ذلك وقوف فى طريق حرية الرأى ومصادرة لاعتقاده لايأتى إلاّبنتيجة عكسية. أما حرية الخطابة فهى لصيقة بالحرية الشخصية. وأنّ الذين يتعرّضون لحرية الكلام، يُعطلون حقــًا من حقوق الأفراد الطبيعية. وإذا كانت حرية الكتابة من الحقوق التى لايحل للمشرع أنْ يمسها، فإنّ المساس بحرية الكلام أولى بالتحريم. وعن حرية الاجتماع كتب أنها ((أكثرخطرًا على الظلم من كل حرية سواها. ولايجوزللمشرع أنْ يمسها من غيرأنْ يُؤخرالأمة ويحبسها عن الأخذ بأسباب مدنيتها))  

    لذلك كان لطفى السيد واحد من الجيل السابق على أبيب/ يوليو1952 الذين دافعوا عن مصر، وتأسّـس مشروعهم الفكرى على أنّ نهضة أى وطن ترتكزعلى جناحيْن: الاعتزازبالثقافة القومية المصرية وعلمنة مؤسسات الدولة.

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك