الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :
عندما دخلتُ كلية الحقوق، درستُ– فى سنة أولى– الفرق بين الشخصية الطبيعية (الإنسان) وبين الشخصية الاعتبارية (الشركات والمؤسسات والبنوك والوزارات إلخ) ويذهب ظنى أنّ كارثة شعبنا تتمثل فى عدم الإيمان بالمفهوم العلمى لتعريف الدولة State وهذا التعريف ينص على أنّ الدولة شخصية اعتبارية، مثل الشركات والهيئات، وأنّ الشخصية الاعتبارية ليس لها دين ولاتتعامل بالدين..ولعلّ استلهام ما حدث بعد انتفاضة شعبنا فى شهرطوبة/ يناير2011 أنّ يكون أدل مثال على غياب هذا المفهوم لتعريف كلمة (الدولة) سواء من المسئولين أومن أغلب الأسماء البارزة فى الثقافة المصرية السائدة..وقبل الانتفاضة بيوم (24يناير2011) تم عقد اجتماع فى مقرحزب الوفد لمناقشة تطورات مظاهرات الشباب الذين طالبوا بمحاكمة ضباط وزارة الداخلية المسئولين عن تلفيق التهم للوطنيين ومحاكمة هؤلاء الضباط. حضرالاجتماع ممثلون عن جماعة الاخوان المسلمين..وأصدروا بيانــًا تضمن تأييد نظام مبارك وعدم الاشتراك فى المظاهرات..وبعد التطورالدراماتيكى الذى انتهى بمذبحة موقعة الجمل..وبعد انضمام الملايين فى كل محافظات مصرلغضب الشباب، وبعد قرارالاعتصام فى كل المحافظات حتى رحيل مبارك وزبانيته، اضطرّتْ كل القوى للاشتراك فى الانتلفاضة..ومن بينها الإخوان وكل الأصوليين..ومنذ ذاك التاريخ إدّعى الأصوليون أنهم سبب نجاح (الثورة) لدرجة أنّ أحدهم احتفتْ به الميديا فإدّعى أنه (مُفجّر الثورة) رغم أنه وميليشياته اشتركوا فى قتل الشباب..وأخطأ المجلس العسكرى عندما سمح لثلاثة آلاف أصولى مصرى كانوا فى كهوف أفغانستان بدخول مصر..وكذلك فتح السجون بمعرفة حماس وحزب الله وهروب الأصوليين الذين اشتركوا فى ترويع الأهالى..ثم الموافقة على تكوين أحزاب على أسس دينية بالمخالفة للقوانين التى أصدرها المجلس العسكرى نفسه. وهكذا سطا الأصوليون على الانتفاضة بمباركة العسكر..وأتاحتْ لهم أموال التنظيم الدولى للإخوان وملوك ورؤساء دول الخليج المرعوبين من ثورات الشعوب وأموال الأصوليين المتاجرين بالأنشطة الطفيلية، اختراق عقل شعبنا بمقولة أنّ من يقف معنا هوالمسلم المؤمن ومن يقف مع الليبراليين هومع الكافرين..وأرشيفى يكتظ بالأدلة الدامغة من أقوال الأصوليين المُروّجين لهذا الإتجاه..وهكذا نجح مخطط (أسلمة الدولة المصرية) بمباركة الإدارة الأمريكية التى لاتعنيها إلاّمصالحها والأدلة أيضًا مُتوفرة مثل الاجتماعات المتكررة بين مسئولين أمريكان وجماعة الإخوان وخصوصًا مع خيرت الشاطرالذى قال ((جماعة الإخوان المسلمين تهدف إلى شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية)) (أهرام 25/6/2012)
الكارثة التى تتغاضى عنها الثقافة السائدة المصرية البائسة أنّ لجنة إعداد الدستورضمـّـتْ عددًا من عتاة الأصوليين السعداء بالعودة إلى كهوف الماضى..ومن بينهم (كمثال) د.ياسر برهامى الذى قال ((نحن نرى عدم جوازتعيين نائب قبطى (يقصد مسيحى لأنّ كل المصريين أقباط) أوامرأة لأنّ الولاية يجب أنْ يتولاها مسلم وهذا ينطبق على النائب)) (أهرام 5/7/2012) لذلك كان من الطبيعى أنْ تكون المقترحات فى لجنة إعداد الدستورردة على كافة المستويات بما فيها دستورعام71 الذى صاغه زبانية السادات ومبارك..ورغم ذلك كانت حرية العقيدة فيه مُطلقة ثم أصبحتْ مُهدّدة بالنسف بسبب المادة رقم (8) التى اقترحها الأصوليون حيث نصـّـتْ على أنّ حرية العقيدة المقصود بها ((الأديان السماوية فقط دون غيرها)) وتلك المادة يحرص الأصوليون الإسلاميون عليها، نظرًا لعدائهم وعدوانيتهم ضد أصحاب الفكرالاستقلالى والذين يراهم المسلمون كفرة مثل البهائيين..وبالتالى سيكون هناك طعن على أحكام مجلس الدولة فى مسألة حقهم فى إثبات البهائية فى البطاقة الشخصية..وكذلك حقهم فى استخراج شهادة الميلاد لأطفالهم واستخراج كافة المستندات الرسمية مثلهم مثل باقى المواطنين.
يُخطىء من يظن أنّ الأصوليين تمتـّعوا بحرية (الظهور) بعد يناير2011..ففى عصرمبارك الذى أشاعتْ مخابراته العامة أكذوبة (الجماعة المحظورة) على الإخوان، قال عضوبمجلس الشعب عن الإخوان (يجب قتل البهائيين) وعندما استضافه أ.وائل الابراشى فى برنامج الحقيقة عصريوم الأحد 21/5/2006سأله ((أنت قلت يجب قتل البهائيين..فهل لازلتَ عند رأيك؟)) قال: نعم يجب قتلهم وحجته ((أنّ البهائيين مرتدون)) والجريمة التى ترتكبها الفضائيات تتمثل فى اختيارالضيوف ونِسَبْ كل فريق..فمثلا نجد ثلاثة من عتاة التكفيريين مقابل واحد فقط يدافع عن البهائيين..وهذا (الواحد) تم اختياره بدقة واستبعاد من هوأفضل منه..ونفس الشىء فى حلقات (الاحتقان الدينى) ثلاثة من عتاة التكفيريين مقابل (واحد مسيحى) يتبين أنه إسلامنجى أكثرمن المسلمين على طريقة (ملك أكثرمن الملك) إذن موضوع اضطهاد البهائيين ليس جديدًا وإنما تمتد جذوره للمناخ السائد المُعادى لحرية الاعتقاد والذى استشرى بعد كارثة أبيب/ يوليو52 وهذا العداء يتناقض مع المادة رقم 18من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادرفى 10ديسمبر1948ونصّـتْ على ((لكل شخص الحق فى حرية التفكيروالضميروالدين ويشمل هذا الحق تغييرديانته أوعقيدته وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائرومراعاتها سواء كان ذلك سرًا أم مع الجماعة {أى علانية})) وهوالأمرالذى كان معمولابه بالفعل قبل يوليو52 حيث كان البهائيون يتمتـّعون بكامل حقوق المواطنة مع ممارسة شعائرهم بعلانية تامة، إلى أنْ أصدرعبد الناصرقرارًا بحل طائفة البهائيين ((المُنحرفة وأمربإهداء دارهم بالعباسية وأموالهم إلى الجمعية العامة للمحافظة على القرآن)) (كتاب الناصرية والإسلام- مركزإعلام الوطن العربى– صاعد – عام91 ص392)
الخطأ الثانى الذى انتشرمؤخرًا هوترديد مقولة (أخونة الدولة) ويتمثل الخطأ فى أنّ الإخوان مجرد فصيل من بين فصائل الأصوليين الحالمين بعصر الكهوف..وتبعًا لذلك فإنّ المُستهدف هو (أسلمة الدولة المصرية) وليس (أخونتها) فقط..وهذه (الأسلمة) ظهرتْ عندما طالب الأصوليون (أمثال أعضاء حزب الضلمة الشهيربحزب النور) بإلغاء تعليم اللغات الأوروبية وعلى رأسها اللغة الإنجليزية..وإلغاء تدريس العلوم الطبيعية وعلى رأسها الفيزيا والإحياء.. كما طالبوا بخفض سن الزواج..وإنشاء خلافة عربية إسلامية مقرها غزة وتكون مصرمجرد ولاية..والنص فى الدستورعلى (السيادة لله) وهوالمطلب الذى أصرّعليه عتاة الأصوليين بما فيهم أعضاء حزب النور(صحيفة الشروق 15/7/2012نموذجًا) ورغم وضوح المشهد نحوالأسلمة وليس الأخونة فقط، فإنّ المُدافعين عن التراث العروبى/ الإسلامى يحاولون تزييف الواقع بإدعاء أنه ليس هناك (أخونة) وكان أ.فهمى هويدى أحد ممثلى هذا التيارفذكرأنه ليس فى معطيات الواقع أنّ الأخونة تحققتْ فى أجهزة الدولة ومؤسساتها ((بما يعنى أنه لادليل على سيطرة الإخوان على مفاصلها ومواقعها الأساسية كما تقول الشائعة الرائجة)) أى أنّ الواقع الحى (شائعة) ولايشعرسيادته بأى تناقض عندما أضاف ((كل الذى حصل أنّ إخوانيًا فازبرئاسة الجمهورية)) أوليستْ رئاسة الدولة أهم (مفصل؟) أوليست وزارة الإعلام التى تولاها إخوانى شهيرأحد أهم مفاصل الدولة لأنها هى التى تملك أخطرأداة قمع فكرى من خلال مدرسة (الإعلام المُوجه) الذى ابتلى به شعبنا بعد يوليو 52؟ أوليس مجلسىْ الشعب والشورى تحكم فيهما الأصوليون؟ أليس التشريع أحد مفاصل الدولة؟ كل هذه الأسئلة تغافل عنها أ.فهمى هويدى لأنه مشغول بتكراركلامه القديم عن أنّ المُختلفين مع الإصوليين من بينهم ما يمكن وصف موقفهم ((عند الحد الأدنى بأنه استئصالى وغيرديمقراطى وغيرحضارى)) وذلك كتمهيد ليصل إلى مبتغاه الذى يُـلح عليه كثيرًا فى معظم كتاباته فيقول أنّ استنساخ التجربة الغربية هى الهدف الأسمى للعلمانيين والليبراليين..وطبعًا فإنّ أى مواطن يعيش فى مناخ تطغى عليه اللغة الدينية التى كفـّرتْ العلمانيين والليبراليين لابد أنْ يتأثربهذا الكلام وتزداد كراهيته لكل علمانى أوليبرالى (مع مراعاة أنه من الضرورى أنْ يظل على جهله بتعريف العلمانية والليبرالية) وأضاف ساخرًا ((الحل للإشكال أنْ نستبدل الشعب المصرى بأغلبيته المتدينة بشعب آخرمنزوع العاطفة الدينية)) فما دخل العاطفة الدينية بأعمال السياسة؟ أوليست (العاطفة الدينية) هى التى تسبّبتْ فى اغتيال د.محمد حسين الذهبى والسادات وفرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ وهدم الكنائس والأضرحة؟ يتصورسيادته أنه يُخاطب مجموعة من البلهاء يُردّدون وراءه (آمين) خاصة أنه أشارإلى أنّ مصر(بلد مسلم) (الشروق المصرية 19/8/2012) وهنا وقع سيادته فى خطأ علمى لأنّ الدولة State مثلها مثل أية شخصية اعتبارية ليس لها دين ولاتتعامل بالدين..فإنْ كان يبغى الدقة فكان عليه أنْ يكتب أنّ أغلبية سكان الدولة المصرية من المسلمين..ولكنها اللغة الدينية التى سيطرتْ على عقله وأفقرتْ قاموسه المعرفى فاستبعد الفلسفة التعددية..وظلّ طوال تاريخه بوقــًا للأصولية الإسلامية رغم محاولات الإعلام البائس الذى أضفى عليه صفة (المفكر) فى حين أنه صريح مع نفسه عندما قال منذ سنوات ((أكثرما يُحزننى هوأنّ البعض ظنّ بى سوءًا وشكّ فى أننى لسبب أوآخرتخليتُ عن جذورى باعتبارى أصوليًا ابن أصولى وتلك كانت مفاجأة أخرى لاتخلومن مفارقة، لأننى أحد الذين لايكفون عن السؤال منذ لاحتْ إرهاصات الهجمة الظالمة: كيف يستطيع المسلم أنْ يلقى ربه بضميرمستريح ما لم يكن أصوليًا؟)) (أهرام 19/5/92) وهكذا تكتمل الدائرة وينطبق الطوق الحديدى على عقول شعبنا وعلى وجدانه (المصرى) بهدف نفى ونسف الانتماء للوطن (الذى هوالموضوع الذى يضم كل أبناء الأمة المصرية) ليكون الانتماء للدين الذى هوشىء (ذاتى) طوق حديدى يخنق العقل والوجدان صنعه أصوليون يُفاخرون بأصوليتهم ويُجاهرون بها وآخرون يتسترون وراء ستارمن الدخان صنعته الميديا تحت مُسمى (فلان الفلانى المفكر الكبير) رغم أنّ أغلب كتاباته/ كتاباتهم تعتمد على الغيبيات العدوة الأولى للفكرالحر. بل إنّ بعضهم لا ينكر، ولايتنكر(لأصوليته) ومع ذلك تـُجلسهم الثقافة السائدة البائسة على مقاعد (المفكرين) وتستضيفهم الفضائيات..وتحتفى بهم الصحف (الخاصة والحكومية) فتحجزلهم مساحة يومية يُمهدون فيها لأسلمة الدولة المصرية..والسؤال: ماموقف المسئولين فى مصربعد سنوات من انتفاضة شهرطوبة/ يناير2011؟ هل تعلموا من الدرس؟ أعتقد أنهم لم يتعلموا، أوهم لايرغبون فى الاستفادة من الدرس..والدليل مواصلة ذات المنهج الذى بدأ فى مصرعقب كارثة أبيب/ يوليو1952، منهج مغازلة الأصوليين الإسلاميين.. وأنّ سياسة (العين الحمراء) من خلال الاعتقال لاتظهرإلاّعند خطرإزاحة المسئول عن كرسى السلطة، كما فعل عبد الناصروالسادات ومبارك..وهوذات المنهج السارى حتى لحظتنا البايسة..وبالتالى فإنّ شمس الحرية أمامها الكثيرمن السحب وخفافيش الظلام..وشمس الحرية لن تسطع إلاّبعد إيمان المسئولين بأنّ الدولة State شخصية اعتبارية، ليس لها دين ولاتتعامل بالدين..فمتى يفهم الأصوليون وأدعياء الليبرالية والمسئولون أنّ (الدولة)– أى دولة– شخصية اعتبارية (مثل الشركات والوزارات إلخ) وليست شخصية طبيعية مثل الإنسان؟
طلعت رضوان
تعليقات الفيسبوك
أترك تعليقك