الآثاروالسياحة واللغة المصرية القديمة

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

    فى زياراتى لآثارجدودنا فى الأقصروغيرها ، تكرّرالمشهد المأساوى التالى : المرشد السياحى يُخطىء فى المعلومات ، والسائح الأوروبى أواليابانى يُصحح له الخطأ. ومن حُسن حظى أنْ كان معى دائمًا عالم المصريات الراحل الجليل محسن لطفى السيد ، فكان يؤكد على خطأ المرشد (المصرى) ودقة معلومات السائح الأجنبى. وفى صالونه كان أغلب الحضورمن المرشدين السياحيين ، وأنّ القليلين منهم يُجيد اللغة المصرية القديمة. لذلك كان يحرص على تخصيص ساعتيْن فى كل مرة لتدريس اللغة المصرية القديمة.

    وأعتقد أنه من العارأنْ يعرف السائح الأجنبى لغة جدودنا على الجداريات وفى البرديات ولا  يعرفها المرشد (المصرى) وأنّ عدم معرفة تلك اللغة توقعه فى الأخطاء (المعلوماتية) لذلك أرى أهمية تدريس اللغة المصرية القديمة بمراحلها الثلاث (الهيروغليفية والديموتيكية والقبطية) فى كل مراحل التعليم (وفق منهج علمى يُناسب كل مرحلة) لتحقيق هدفيْن قومييْن : الأول : كسراحتكارالعلماء الأوروبيين لعلم المصريات ، فمع التقديرالذى لايُمكن انكاره لمجهودهم فإنّ الحقيقة التى لايُمكن تغافلها هى أنّ هذا العلم يجب أنْ يكون شعبنا هوأول من يهتم به. ويدفعنى لهذا الاعتقاد أربعة أسباب (1) أننا أحفاد من أبدعوا هذه الحضارة (2) من يضمن أنّ بعض الدراسات الأوروبية قد يشوبها التشويه أوالتزويرأوحجب المعلومات ؟ فمن هوالقادرعلى الرد غيرالأحفاد ؟ (3) تضع بعض الجامعات الأوروبية الخطوط الحمراء أمام أى باحث مصرى يود التخصص فى علم المصريات. وقد أكد لى هذه الحقيقة صديقى الراحل الجليل (لويس بقطر) الذى عاش فى السويد أكثرمن 20سنة. وذكرلى أنهم فى السويد قالوا له بصراحة : هناك بعض المناطق فى التاريخ المصرى القديم لايجوزلأى باحث مصرى الاقتراب منها ، ولذلك عانى كثيرًا فى الاطلاع على بعض البرديات المحفوظة فى جامعاتهم ومتاحفهم. وبمجهوده الخاص استطاع أنْ يكتب عدة كتب منها كتابه المهم (مصرالقديمة- التاريخ الاجتماعى) الصادرعن المجلس الأعلى للثقافة- المشروع القومى للترجمة- عام 2000و(تأملات فى الأدب المصرى القديم- هيئة قصورالثقافة- عام 95غيرالترجمات (4) أنّ المصريين المتخصصين فى علم المصريات عددهم ضئيل جدًا بالنسبة لعدد العلماء الأوروبيين من جهة وبالنسبة لحجم وأهمية هذه القارة (الحضارة المصرية) التى لم يتم الكشف عن كل كنوزها من جهة ثانية. لكل هذه الأسباب لابد أنْ يكون لدينا جيل من العلماء المُتخصصين فى حضارة جدودنا ، وهذا التخصص لايُمكن أنْ يكون جادًا إلاّبتعلم اللغة المصرية القديمة.

    الهدف الثانى : لايجوزالاستمرارفى الوضع الراهن البائس للمرشدين السياحيين المصريين ، الذين يكتفون بقشورالدراسة النظرية فى الكليات والمعاهد (الخاصة) التى همها الحصول على المصاريف الباهظة من الطلاب ، دون تحصيل علمى منهجى ، وبالتالى لايُتقنون اللغة المصرية القديمة. فإذا تحقق مطلب تدريس تلك اللغة فى المدارس والجامعات ، سيكون الطالب الراغب فى العمل كمرشد سياحى ، على دراية بلغة جدوده. وبالتالى يكون شرحه للسياح على المستوى العلمى الجاد .

    ولعلنا نعى درس يوم 14سبتمبر1822فى علم المصريات ، عندما قال جان فرانسوا شامبليون (المسألة فى حوزتى) وكان يقصد حل رموزاللغة المصرية. فى ذاك التاريخ تم اكتشاف (قارة حضارية) اسمها الحضارة المصرية. وتم تأسيس علم جديد اسمه (علم المصريات) طبعًا كانت هناك جهود سابقة على شامبليون ، ولكنه هوالأكثردقة. كان عشقه الأول للغويات. وأنّ اهتمامه باللغات العربية والكلدانية والسريانية بدأ وعمره 13سنة. بعد أنْ درس اللاتينية والعبرية. ثم عكف على دراسة اللغة القبطية. وفى عام 1812قال ((استسلمتُ تمامًا لدراسة اللغة القبطية. كنتُ منغمسًا فى هذه اللغة لدرجة أننى كنتُ ألهوبترجمة كل مايخطرعلى ذهنى إلى القبطية. كنتُ أتحدث مع نفسى بالقبطية. ولفرط ماتفحّصتُ هذه اللغة كنتُ أشعرأننى قادرعلى تعليم أحدهم قواعدها النحوية فى يوم واحد. ولاجدال أنّ هذه الدراسة الكاملة للغة المصرية تمنح مفتاح المنظومة الهيروغليفية وقد عثُرتُ عليه)) وعندما زارمصروقف أمام معبد الكرنك وقال ((لسنا فى أوروبا سوى أقزام. لايوجد شعب قديم أوحديث تصوّرالفن المعمارى مثلما فعل المصريون ، وعلى مستوى بمثل هذه المهابة والفخامة والرحابة. إنّ الإبداع الذى يُحلق عاليًا  فوق أروقتنا فى أوروبا يسقط عاجزًا عند أقدام بهوالأعمدة فى الكرنك الذى يضم 140عمودًا))

    بعد حل رموزاللغة المصرية بدأ علم المصريات ينحونحوالتأصيل المؤسس على قراءة اللغة المنقوشة على الجداريات والمكتوبة فى البرديات ، أى بدأ ذاك العلم يعتمد على المصادرالأصلية وليس على ماكتبه المؤرخون والرحالة فقط . وكان لعدد من العلماء الأوروبيين الفضل فى (الكتابة العلمية) عن الحضارة المصرية. وهذا الجهد العلمى لم يكن يتحقق إلاّبعد أنْ عكفوا على تعلم اللغة المصرية القديمة ، أمثال أدولف إرمان وهومن أبرزالمتخصصين فى دراسة التاريخ المصرى القديم وأحد منشئى المدرسة الحديثة التى اهتمتْ بالحضارة المصرية وباللغة المصرية على أساس علمى. وكان لهذه المدرسة فضل كتابة المعاجم والأجروميات لمختلف لهجات اللغة المصرية القديمة فى كل عصورها. وقد انتشرتلاميذ إرمان فى أوروبا وأمريكا . أما العالم برستد فقد تم تعيينه أستاذًا للدراسات المصرية القديمة والتاريخ الشرقى بجامعة شيكاغومن عام 1905- 1933وله فضل الكشف عن بعض الآثارالقديمة فى مصر والعراق. وكذلك (سيرآلان جاردنر) عالم الآثارالإنجليزى رئيس جمعية التنقيب عن الآثار المصرية. درس علم المصريات فى مانشستر(1912- 14) ورئيس تحريرمجلة الآثارالمصرية. أسهم فى قراءة نقوش مقبرة توت – عنخ – آمون (1923) عُيّن أستاذا للآثارالمصرية فى جامعة شيكاغو. وترتب على مجهوده فى الحضارة المصرية أنْ صارعضوًا فى كثيرمن الجمعيات العلمية المتخصصة فى تاريخ مصرالقديمة. أصدرالعديد من الكتب عن مصرمنها (الأجرومية المصرية)عام 1927 وترجم بردية (شستربيتى رقم “1”) عام 1931و(التصويرالمصرى القديم) بالاشتراك مع نينا دى جاريس عام 1936 و(نقوش قادش لرمسيس الثانى) عام 1960. ويعتبرعلماء المصريات أنّ كتاب جاردنر(النحوالمصرى) هوعمدة اللغة المصرية القديمة فى مرحلتها الهيروغليفية وكتب ((ظلّ التاريخ المُدوّن فى حكم العدم حتى اكتشف المصريون قبل نهاية حقبة ماقبل الأسرمبدأ الكتابة الصورية)) وما كتبه جاردنرعن الكتابة الصورية وعن اللغة المصرية أكده علماء لغويات كثيرون من بينهم اللغوى الإنجليزى (سيمون بوتر) الذى كتب ((كافة الأبجديات جميعًا أشتقتْ من الكتابة الصورية التى نشأتْ فى مصر)) (أنظركتاب حاضرالثقافة فى مصر- تأليف الراحل الجليل بيومى قنديل- ط 4 على نفقته الخاصة- عام 2008- أكثرمن صفحة)  

    إننى أناشد المسئولين عن التعليم فى مصرضرورة أنْ يتضمن منهج التعليم تدريس اللغة المصرية القديمة لأبنائنا ، من الإبتدائى إلى الجامعى ، كى يكون لدينا علماء فى علم المصريات ومرشون سياحيون على مستوى المنهج العلمى . وإذا كانت أوروبا لديها ولع يصل لدرجة العشق و(الغرام) بالحضارة المصرية واهتمام بتدريس اللغة المصرية القديمة. ولدرجة تدريس مادة (علم المصريات) للتلاميذ من الإبتدائى إلى الجامعة. فإذا كان الأمركذلك فإننا نحن المصريين أولى بهذا (الإهتمام) الأوروبى بتاريخنا القديم. يؤكد ذلك شهادة د. حسن بكر، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة أسيوط الذى كتب ((الطالب الغربى عمومًا والأمريكى بالذات يدرس الآثار المصرية فى جميع مراحل التعليم قبل الجامعى بدقة تفوق دراسة أى طالب مصرى أوعربى لها. وقد أذهلنى حينما كنتُ طالب بعثة بالولايات المتحدة خلال عقد الثمانينات أنّ عديدًا من الأمريكان  يحفظون مراحل تطورالحضارة المصرية عن ظهرقلب. وقد أوجعنى كثيرًا أنّ أحدهم دخل فى مناقشة معنا فى النادى الثقافى المصرى ، فراح يُعدد لنا أسماء الأسرالفرعونية واحدة تلوالأخرى  ووقفنا أنا وزملائى المصريين واجمين)) (أهرام 21/4/92) وكتب د. صبحى شفيق ((أول كتاب يتسلمه التلميذ بالمدارس فى أوروبا ، فى صفحته الأولى صورة لهرم زوسرالمُدرّج وتحته يقرأ : أول حضارة عرفتْ استخدام الأحجارذات الزوايا القائمة وأول صرح حضارى فى تاريخ الإنسانية)) (صحيفة القاهرة 22/11/2005) أما الكاتب أ. محمد صالح فقد اقترح اقتراحًا منذ عدة سنوات ولم يهتم به أحد من المسئولين إذْ كتب (( لستُ أعرف لماذا لم نفكرحتى الآن فى أنْ يكون يوم كشف اللغة الهيروغليفية وحل رموزها عيدًا قوميًا لمصرباعتبارأنّ ذلك هوالحدث الذى كشف حقيقة الحضارة المصرية ووضعها فى مرتبة أعلى من سواها)) (أهرام 21/9/ 2002 ص 10)

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك