ارهاصات العلمانية فى مصر

90

الكاتب الأستاذ طلعت رضوان يكتب :

     عاشت مصرحتى أوائل القرن 19تحت سيطرة أبشع أشكال الاستعمارالاستيطانى الذى فرض التخلف الثقافى والتنموى، ورغم ذلك فإنه بعد أقل من مائة عام، نفضت مصرغبار العصورالوسطى، فإذا كان التعليم طوال عدة قرون قاصرًا على الكتاتيب، فإنّ معاصرًا لفترة المخاض هو أ. محمد لطفى جمعة يعترف فى مذكراته بأنه أتقن اللغة الإنجليزية منذ أنْ كان فى السنة الرابعة الإبتدائية. وأنّ التدريس بالإنجليزية كان يشمل الكيميا والرياضيات والطبيعة والتاريخ والجغرافيا وكتب ((أشهد أنّ مجموعة الأساتذة فى مدرسة إبتدائية ريفية فى أواخر القرن 19 كانت أرقى من مجموعة أساتذة فى مدرسة عليا أو جامعة فى أواسط القرن العشرين)) (مذكرات محمد لطفى جمعةـ سلسلة تاريخ المصريين رقم183ـ هيئة الكتاب المصرية)

     وكتب لويس عوض أنه عندما كان فى مدرسة المنيا الثانوية ((لم تكن هناك دروس دين، وإنما حلــّـتْ محلها مادة (الأخلاق) ومادة التربية الوطنية، كنا نتعلــّم منها مبادىء المساواة فى الحقوق والواجبات )) وعن الكتب المقررة على الطلبة فى الفترة من 26- 1930 ذكرأنه ((درس فى السنتيْن الأولى والثانية الثانوية كتاب شفيق غربال (تاريخ مصرالقديمة) وفى إحدى السنوات وزّعتْ الوزارة على الطلبة كتاب (أميل) لروسو وكتاب (قادة الفكر) لطه حسين)) (لويس عوض ـ أوراق العمرـ سنوات التكوين ـ مكتبة مدبولى عام1989من ص256ـ 264)   

     وكتبت د. سهيرالقلماوى أنه ((عندما تولى طه حسين وزارة المعارف عام 1950 كان أهم أعماله توحيد المرحلة الأولى فى التعليم، فلم يعد هناك تعليم دينى متخلف وآخرمدنى، وإنما أصبح التعليم واحدًا، يضمن الوحدة الفكرية بين مواطنى الوطن الواحد)) (مجلة الكاتب ـ مارس1975) وطه حسين عندما كان عميدًا لكلية الآداب رسّخ فى الطلبة ملكة (النقد) وهوالمعنى الذى عبّرعنه د.عبدالحميد العبادى الذى كتب عن نظام التعليم الذى يتمناه ((عاوزأبث فى الطلبة روح طه. روح البحث والجدل و(الخناق العلمى) كما يقول أستاذنا لطفى السيد)) وطه حسين يتواضع إلى درجة أنْ يعرض مقالابعنوان (كيف نحارب الطائفية) بقلم عبداللطيف شرارة نشره فى مجلة (الأديب) قال فيه ((إنّ التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة عقيمة. قام بها ابن سينا منذ قرون فانتهى به الأمرإلى إعتباره زنديقــًا من قِبل رجال الدين. قصيرالنظرمن قِبل الفلاسفة. كما أنّ التوفيق بين دين ودين انتهى على يد كثيرين فى أوروبا وفى الشرق إلى مآسٍ ردّد التاريخ صداها)) (مجلة الكاتب المصرى ـ فبراير1946)

     ودافع لطفى السيد عن استقلال القضاء وحرية الصحافة والكتابة وتأليف الأحزاب. وعن التعليم كتب ((إنّ الهدف من التعليم الجامعى أساسه حرية التفكيروالنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل ما يُـقال)) وفى رده على دعاة أنّ (الدين جنسية) كتب ((الإسلام ليس لمسلم بوطن. فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (المنتخبات ـ ج2 ص7، 38)

     ويدعوإسماعيل أدهم إلى أنْ ((تحيا مصرحياة فكرية صحيحة وتــُـنشىء لنفسها ثقافة تــُـقيم عليها أساس دولتها. ولابد من برنامج للتعليم يقوم على أساس علمانى لجميع طبقات الشعب)) وإسماعيل أدهم رغم أصوله التركية، كان ممتلئـًا بروح مصرية جعلته ينحازللغة العلم، فكتب يناشد شعبنا أنْ يترك اللغة العربية، لأنّ لنا لغة قومية، وقال (( إننى منذ حططتُ رحالى فى مصرلدراسة حياتها الاجتماعية والأدبية وقفتُ على ثروة جديدة هى (اللغة المصرية) ومن الخطأ القول أنها عامية العربية. فهذه هى لغتكم وهى أولى برعايتكم من لغة البدوالذين لارابط بينكم وبينهم ولاصلة)) وعن أسباب التخلف فى دول الشرق والتقدم فى دول الغرب لخّصها فى جملة واحدة ((إنّ فى الشرق استسلامًا محضًا للغيب. وفى الغرب نضالا محضًا مع قوى الغيب)) (إسماعيل أدهم ـ الأعمال الكاملةـ دارالمعارف المصريةـ عام1986ـ ج3 تحقيق د. أحمد إبراهيم الهوارى ـ أكثرمن صفحة)   

     أما قاسم أمين فيرى ضرورة أنْ ((نربى أولادنا على أنْ يعرفوا شئون المدنية الغربية. وأنه من المستحيل أنْ يتم إصلاح ما فى أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة. ولهذا لانتردد فى أنْ نـُصرّح بأنّ القول بأننا أرقى من الغربيين هومن قبيل ما تنشده الأمهات من الغناء لتنويم الأطفال)) (قاسم أمين ـ الأعمال الكاملةـ تحقيق د. محمد عمارة ـ دارالشروق عام1989)

 كلام قاسم أمين أعجب فرح أنطون فكتب ((مما تقدم يتضح أنّ مدنيات الأمم لاتتوقف على الدين بل على العلم. وأنّ الأمم (الوثنية) كاليابان إذا سلكتْ سبيل العلم والنواميس الطبيعية، ارتقتْ مدنيتها على كل مدنية. حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفـًا ومعنى دون أنْ يشتغلوا بالعلم. لأنّ الدين شىء والدنيا شىء (آخر) وكيف يقال إنّ الإنسانية كلها ستعود إلى القرآن فى المستقبل كما يقول الأستاذ محمد عبده. وأنها ستعود كلها إلى الإنجيل كما يقول رؤساء الدين المسيحى؟ كلا ثم كلا. إنّ الإنسانية طــُـبعتْ على التنوع والاختلاف. ولابد من هذا التباين فى المعتقدات))   

    وعرض إسماعيل مظهرأربعة أنواع من المذهبية تؤدى إلى التعصب. ودعا إلى تحطيم المذهبيات إذا كنا نسعى إلى الارتقاء..وإذن وجب علينا أنْ نضحى بأحدهما ليخلص لنا الآخر. ولاجـُـرم أننا نضحى بالمذهبية فى سبيل الارتقاء نحوالحضارة الحديثة.

     وتــُشارك المرأة فى زلزلة ثوابت الموروث. فيجد الباحث أسماء منيرة ثابت، درية شفيق، هدى شعراوى وزميلاتها فى لجنة السيدات بحزب الوفد اللائى أجمعنَ على أنْ يكون الطلاق أمام المحاكم المدنية. وإلغاء تعدد الزوجات إلاّ للضرورة كأنْ تكون الزوجة عقيمًا. أما سعاد الرملى فقد شبّهتْ رجال الدين بالفاشيين الذين ينظرون إلى المرأة نظرتهم إلى تحفة أو متاع لأمزجتهم. فى هذا المناخ الذى كانت مصرفيه يتخلــّـق فى أحشائها جنين دولة عظمى فى الشرق الأوسط ، يعثرالباحث على أول فتاة مصرية تقود طائرة ( لطيفة النادى) عام 1932 وأول فتاة مصرية ارتدتْ روب المحاماة (نعيمة الأيوبى) ويكون الاحتفال بخريجات الطب فى نفس العام.

     ورغم الاحتلال والأزهروالقصروالإخوان المسلمين، يجد الباحث مادة خصبة فى الصحف والمجلات الصادرة فى تلك الفترة، تؤكد على تنامى الفكرالعلمانى، مثل مجلة الجامعة، التطور، المجلة الجديدة، العصور، الحديث، الجريدة، السياسة، الفجرالجديد، الكاتب المصرى إلخ. شكــّـلتْ هذه الدوريات (بخلاف الكتب) تيارًا تنويريًا، ضمّ عددًا كبيرًا من الكـُــتُاب المؤمنين بمبادىء العلمانية. وكان المُنطلق الرئيسى لأفكارهم أنّ ((الدين شىء والسياسة شىء آخر)) ولايجوز الخلط بينهما. لذلك فإنه لم تكن مصادفة أنه فى ظل هذا المناخ الثقافى أنْ يصدرفى عام 1946 كتاب (الإخوان المسلمون فى الميزان) تأليف عبدالرحمن الناصرالذى نشره باسم مستعار هومحمد حسن أحمد، وصف فيه الإخوان المسلمين بالفاشيين. وبعد أنْ عرّف الفاشية، لخــصها فى تسعة مظاهر، ثم طبّقها على الإخوان. وفى عام 1950 يُصدرخالد محمد خالد كتابه (من هنا نبدأ) الذى انتقد فيه الدولة الدينية ودافع عن الدولة العصرية.

     أود أنْ أحيط القارىء المهتم أنّ ما تقدم مجرد هوامش على إرهاصات العلمانية فى مصر (مستخلصة من عدة مجلدات) قبل أنْ يأتى البكباشية فى شهرأبيب/ يوليو52  ليقطعوا مسيرة الحداثة. وعندما أنزلوا معاولهم على الفترة السابقة على عهدهم، أجهضوا تجربة الليبرالية المصرية، وأجهضوا الجنين المُـتكون فى أحشاء مصر، الجنين الذى كان يُنبىء بمصردولة عظمى فى الشرق الأوسط، وبالتالى (فى أقل تقدير) أجهضوا أية محاولة للتقدم. وعن الدور التنويرى للعلمانيين المصريين كتبتْ د. لطيفة الزيات ((وأنا أشيّع جنازة طه حسين، شعرتُ أنى أشيع عصرًا لارجلا. عصرالعلمانيين الذين جرؤوا على مساءلة كل شىء. عصرالمفكرين الذين عاشوا مايقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة على إرادة كل ألوان القهر))   

طلعت رضوان

تعليقات الفيسبوك

أترك تعليقك